الـــفـــكـــر الــشـــرطـــي الـحــــديـث قــــراءة تحليلية للـــواقــــع اليـمـنـي
رسمي
منذ 10 ساعات
مشاركة

 

عميد ركن/ نجيب الناصر

شكّلت الوظائف التخصصية الثلاث التقليدية للشرطة (الإدارية، القضائية، الاجتماعية) الإطار المؤسسي الأساسي لعمل جهاز الشرطة منذ نشأته، حيث ارتبطت كل وظيفة بمجموعة من الأدوار والسلطات المستقرة قانونًا.

ومع تطوّر الفكر الشرطي وتزايد التحديات المجتمعية والتقنية، طرأ توسّع نوعي على هذه الوظائف، لا من حيث العدد، بل من حيث عمق المهام ودقة التخصصات الفرعية داخل كل وظيفة.

ففي الوظيفة الإدارية، لم يعد الضبط الإداري مقتصرًا على الدوريات والحراسات والانتشار الأمني .. الخ، بل أصبح يشمل أدوات استباقية مثل التحليل التنبؤي والإحصائي الجنائي والتخطيط بالسيناريوهات، وتوزيع القوى الشرطية  على ضوء خرائط رقمية، واستخدام تقنيات المراقبة الذكية وكاميرات الجسم وغير ذلك.

أما في الوظيفة القضائية، فقد توسعت لتشمل التحقيقات الرقمية والعدالة الجنائية المدعومة بالتقنيات، وإنشاء وحدات تخصصية في الجرائم الإلكترونية وغسل الأموال والجريمة المنظمة.. الخ.

وفي الوظيفة الاجتماعية، ظهر نمط جديد من العمل الأمني يعتمد على الشراكة مع المجتمع، ويجسده نموذج الشرطة المجتمعية، والشرطة المدرسية، والعدالة التصالحية، والدور الوقائي ضد العنف الأسري والتفكك المجتمعي.

ومع هذا التطور، برز سؤال محوري: هل واكب المشرع القانوني اليمني هذا التوسع التخصصي؟ وما هي التحديات التي تواجه هذا التطور؟

أولًا: ماهية تطور الفكر الشرطي الحديث

تطور الفكر الشرطي الحديث لم يعد محصورًا في المهام التقليدية للشرطة المتمثلة في الوظائف التخصصية الثلاث (الإدارية، القضائية، الاجتماعية)، بل اتسع ليشمل أدوات وتقنيات حديثة وأساليب وظيفية متقدمة.. ويرتكز هذا التطور على مجموعة من التحولات النظرية والعملية، وتمثلت في:

– الانتقال من العمل التفاعلي إلى العمل الوقائي الاستباقية.

– إدماج التكنولوجيا في العمليات الشرطية، مثل الذكاء الاصطناعي، والتحليل التنبؤي، وكاميرات الجسم، والأنظمة البيومترية.

– توسيع الوظائف التخصصية للشرطة لتشمل شرطة المجتمع، شرطة الأحداث، الشرطة المدرسية، الشرطة البيئية، ووحدات مكافحة الجريمة الرقمية.

– اعتماد منهجية الشراكة مع المواطن كمصدر أساسي للأمن المجتمعي.

ثانيًا: مجالات التطور في الفكر الشرطي

1 – في المجال المفاهيمي: الانتقال من نموذج «الشرطة كقوة وسلطة» إلى الشرطة كهيئة مدنية تقدم خدمة عامة (الخدمة الأمنية أو الخدمات الأخرى) ومن الردّ بعد الجريمة إلى الاستباق والوقاية.

2 – التطور التقني والرقمي: استخدام الذكاء الاصطناعي، البيانات الضخمة، أنظمة التعرف على الوجوه، وكاميرات الجسم، والأمن السيبراني .. الخ

3 – التطور القانوني والتشريعي: صدور قوانين متخصصة تنظم أدوات الشرطة الحديثة، وتحمي الحقوق الرقمية، وتحدد قواعد استخدام الأدلة الإلكترونية.

4 – التطور في المجال الخدمي: تبسيط الإجراءات، تقديم الخدمات الشرطية إلكترونيًا، واستخدام التطبيقات الذكية.

5 – التطور المجتمعي: اعتماد الشرطة المجتمعية، وشرطة الأحداث وشرطة حماية الأسرة والطفل وتعزيز الشراكة مع المجتمع، وتدريب الضباط على مهارات الاتصال والتفاعل الإنساني.

ثالثاً: تطور الفكر الشرطي في الدول الغربية

شهدت الدول الغربية نقلة نوعية في تطوير الفكر الشرطي، وتطبيقه في جميع الوظائف الأساسية ومن أمثلة ذلك

– في المانيا في الوظيفة الإدارية أدخلت أنظمة مرور ذكية، وتحكم مركزي لحركة الشوارع

– وفي المملكة المتحدة (بريطانيا) في الوظيفة القضائية تم استخدام مختبرات الأدلة الرقمية، واعتماد الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات .

– وفي السويد وهولندا مثلاً في الوظيفة الاجتماعية تم إدماج الشرطة المجتمعية وتوظيف أخصائيين اجتماعيين في أقسام الشرطة.

– المجال المفاهيمي: ميثاق الشرطة في فرنسا يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والشرطي على أساس «الخدمة والاحترام».

– التحول الرقمي: شرطة استراليا تقدم أكثر من 90% من خدماتها عبر الإنترنت.

– المجال التشريعي: المحكمة العليا الأمريكية أرست ضوابط استخدام البيانات الرقمية كأدلة  في الأثبات .

– المجال المجتمعي: الشرطة المجتمعية وغير ذلك

رابعاً: تطور الفكر الشرطي في الدول العربية

شهدت السنوات الأخيرة تطور كبير في الفكر الشرطي الحديث في معظم الدول العربية – خاصة دول الخليج العربي-   في مجالات عديدة لعل أهمها: استخدم الأدلة الرقمية وكاميرات الجسم وتقديم خدمات شرطية رقمية عبر تطبيقات موحدة. في الملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج ومصر والجزائر ..الخ

خامساً: واقع الفكر الشرطي في الجمهورية اليمنية

رغم وجود الحاجة الملحّة للتحديث، إلا أن اليمن شهد توقفًا شبه تام في تطور الفكر الشرطي منذ انقلاب مليشيا الحوثي على الدولة في العام 2014م.

ومع ذلك توجد بعض المبادرات في بعض المحافظات المحررة في ظل غياب رؤية استراتيجية لوزارة الداخلية في تطوير الفكر الشرطي عدا بعض الجهود ومنها اصدار البطاقة الذكية, كما تعاني أدوات الضبط القضائي من غياب الدعم التقني، وضعف التنسيق مع النيابة العامة والقضاء.

وفي مجال الوظيفة الاجتماعية تكاد تنعدم برامج الشرطة المجتمعية، باستثناء مبادرات محلية محدودة والنقص الشديد في البنية التحتية المادية والتقنية للتحول الرقمي وضعف برامج التأهيل والتدريب  .

اضافة الى الفجوة التشريعية والقانونية حيث لم تصدر قوانين حديثة تخص الأدلة الرقمية أو الاستخدام الآمن للتقنيات وتعد الفجوة التشريعية والقانونية أهم تحدي تواجه الشرطة في اليمن, إذ أن غياب التطور التشريعي والقانوني يعيق جهود الشرطة في استخدام الأدوات الرقمية الحديثة بالإضافة إلى أنه قد يتعرض الضباط للمساءلة القانونية في ظل غياب النصوص القانونية التي تواكب ذلك التطور الشرطي الحديث

ونظراً لتطور الجريمة واساليب ارتكابها خاصة في ظل الطفرة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والتوليدي والرقمنة واكب العالم هذا التطور.

الأمر الذي يتوجب على النيابة العامة ممثلة بالنائب العام ومجلس القضاء الأعلى وممثليهم في المحافظات المحررة إلى الوقوف أمام هذه الإشكالية الإجرائية والقانونية وابتكار حلول من خلال إصدار لوائح وتعليمات تساعد في ردم الفجوة التشريعية نظراً لظروف الوضع الرهن القائم من غياب دور مجلس النواب.

ويعد ذلك من أهم متطلبات تطوير الفكر الشرطي في المحافظات المحررة لتعزيز جهود الشرطة في مواكبة التغييرات المتسارعة في كافة المجالات.

سادساً: أبرز التحديات التي تواجه تطور الفكر الشرطي في اليمن

1 – غياب رؤية استراتيجية لوزارة الداخلية لمواكبة التطور في الفكر الشرطي.

2 – غياب النصوص الصريحة التي تنظّم استخدام الأدوات الحديثة (مثل كاميرات الجسم، والتعرف البيومتري، والتحليل الذكي).

3 – الاعتماد على تعليمات إدارية داخلية غير مُلزمة قضائيًا.

4 – ضعف التشريعات الخاصة بحماية البيانات والخصوصية، ما يؤدي إلى ارتباك قانوني في قبول الأدلة المستخرجة.

5 – غياب الإطار القانوني الذي يحدد صلاحيات رجل الشرطة عند استخدام أدوات استباقية.

6 – ضعف البنية التحتية في المحافظات المحررة .

ختاما نؤكد ان الفكر الشرطي الحديث يساهم في إحداث نقلة نوعية في أدوات الشرطة ووظائفها ومهاراتها، لكنه يصطدم بفجوة تشريعية تؤثر في مشروعية الممارسة.

حيث أن أجهزة العدالة والقضاء في المحافظات المحررة تتعامل مع هذه الفجوة باجتهاد حذر، بينما تقننها أوروبا وأمريكا وبعض الدول العربية بقوانين مرنة ومتقدمة.

إن الحماية الحقيقية للشرطة لا تكون بإعفائها من المساءلة، بل بإيجاد تشريع عصري يُحصّنها من التعسف، ويُقيّدها بالنصوص القانونية، ويُعيد بناء العلاقة بين الشرطة والمجتمع على أسس من الشفافية والثقة وسيادة القانون وفق متطلبات وإجراءات التطور في الفكر الحديث للشرطة .

ويُظهر تحليل واقع الفكر الشرطي أن العالم يتجه نحو نماذج شرطية متطورة تستند إلى التقنية والشراكة المجتمعية والتشريعات الدقيقة في حين لا تزال دول عربية – وعلى رأسها اليمن – بحاجة إلى إصلاحات مؤسسية وتشريعية شاملة تعيد بناء الفكر الأمني على أسس حديثة تراعي الكفاءة، والعدالة، وحقوق الإنسان.

كما أن وجود فجوة بين الممارسة الأمنية والتشريع يُعد تحديًا رئيسيًا ينبغي معالجته لضمان شرعية الممارسة الأمنية ومهنيتها.

ظهرت المقالة الـــفـــكـــر الــشـــرطـــي الـحــــديـث قــــراءة تحليلية للـــواقــــع اليـمـنـي أولاً على سبتمبر نت.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية