المجتمع ميدان لمعركة الوعي - توفيق الحميدي
حزبي
منذ 7 ساعات
مشاركة
في عصر أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا ضخمًا للاستعراض الثقافي، بات سهلا أن يعتلي خشبتها كل من يملك القدرة على صناعة محتوى سريع ، أو يضع مقطع فيديو على حالته في السوشال ميديا يستهلكه الجمهور بلهفة ، في حالته لم يعد شرطا أن تحمل المعرفة جذورا عميقة أو تستند إلى رؤية نقدية منهجية، بل يكفي أن تتزين بعناوين براقة وكلمات مستعارة من هنا وهناك كي يلتف حولها الآلاف. هكذا نشأت ظاهرة مدّعي الثقافة ومتسلقي الشهرة الذين يكتفون بتجميع الشذرات وتقديمها في قالب يزعم الأصالة. لكن وراء هذا المشهد يلوح خطرٌ فكري لا يقل عنفًا عن أي أزمة حضارية، خطرٌ سماه المفكر مالك بن نبي بـ”إنسان النصف”.

مفهوم “إنسان النصف” عند مالك بن نبي لا يصف مجرد حالة فردية عابرة، بل يعرّي نمطا من الشخصيات التي تعيش في فراغ معرفي وتفكك ثقافي واضح. إنه الإنسان الذي يفتقر إلى منهجية فكرية واضحة أو تصور حضاري متماسك، فلا يستطيع أن يكون جزءا من مشروع إبداعي أو تغيير مؤثر ، بل هو أقرب ما يكون شخص  مستخدم لدى  مشاريع الأخرين ، خاصة السلطات القمعية ، فيظهر فجأة الى السطح ، ملابس أنيقة ، ملامح طرية ، كلمات منتقاه بعناية ، عناوين جذابة ، فيديو بجودة عالية ، وفي عمقة تجده حبيس السطحية، يلتقط فتات الأفكار ونتف الاقتباسات ويجمعها في شكل ظاهري يخلو من التحليل النقدي والربط بالسياق الأعمق، فيغدو مجرد وسيط لاستهلاك ثقافي لا يترك أثرا ولا يبني وعيا.

هذا النمط من “إنسان النصف” وجد في فضاء السوشيال ميديا تربة خصبة للنمو والتكاثر. كثير من مشاهير المنصات الرقمية يقدمون أنفسهم بوصفهم روادا للتجديد والحداثة، يتجاوزون المفكرين الكبار ، لان الجمهور السطحي يبحث عن نتف سطحية ، لا علاقة لها بالفكر ، والثقافة ، يبحث عن النسخ الهشة  من أفكار مسبقة، يتم تدويرها وإعادة تغليفها دون فحص جاد أو تمحيص نقدي. تزداد الخطورة حين تستخدم شعارات رنانة كـ”الإلحاد”، “التحرر”، “الأسلمة”، و”التنوير” كعلامات تسويقية هدفها اجتذاب الانتباه واصطياد الإعجابات، بينما يختفي وراء هذه الواجهات خواء معرفي وفقر فكري مدقع.

إن معركة “تشييء الإنسان”، تحويل الإنسان الى شيء ، كما يصفها بن نبي، تجد هنا تجلّيا صارخا : تحويل المعرفة إلى سلعة استهلاكية سريعة الزوال، قابل للتدوير ، والعد لاستخدامة في معركة الحرية الاستبداد ، والوعي ضد التدجين ، ليتحويل الإنسان من منتج للمعرفة ومساهم في بناء حضارة إلى كائن متلق يقتات على القص واللصق. في هذا المناخ، تغيب الرؤية النقدية، ويتكرّس نموذج الإنسان المنفصل عن السياق الحضاري والوعي التاريخي، ليصبح أسير الشهرة الوقتية ونجومية اللحظة.

لتجاوز هذا الانحدار، يطرح بن نبي مشروع “الإنسان الكامل”، القادر على تخطي حالة التجزئة والسطحية نحو وعي أصيل يتأسس على الدراسة العميقة والمنهجية الرصينة وربط الأفكار بسياقها الحضاري. إن هذا الوعي ليس ترفًا، بل ضرورة لكل من يطمح لصناعة أثر حقيقي، وللمبدعين ومشاهير المنصات الذين يتصدّرون المشهد الثقافي أن يتحلّوا بشجاعة النقد الذاتي ويعيدوا النظر في منهجياتهم، حتى لا يكونوا مجرد أدوات لتكرار التفاهة وتمديد الفراغ.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية