منذ سيطرة جماعة الحوثي المسلحة على العاصمة اليمنية صنعاء عام 2014، فرضت واقعاً قهرياً قائماً على العنف الأيديولوجي، والتضييق على الحريات، والتحكم الصارم في مفاصل الحياة اليومية. لا ترى الجماعة في الحكم حقاً مشتركاً بين المواطنين، بل تعتبره ميراثاً حصرياً لها، تستند إلى قراءة كهنوتية تُقصي الشعب من السياسة، وتُكرّس السلطة السلالية كقدر مقدّس لا يُنازع.
يبدو صمت الناس في شمال اليمن، لمن لا يعرف المشهد عن قرب، لغزاً محيّراً، لكنه في الحقيقة ليس لغزاً، بل مرآة لوضع بالغ القسوة. في الجغرافيا التي يسيطر عليها الحوثي، لا يُقاس الصمت بالسكينة، بل بما يعتمل تحته من لهب. خلف هذا السكون قلوب مثقلة بالخذلان، وضمائر معلّقة بين الخوف والأمل. فليس كل من صمت قد رضخ، بل كثيرون ابتلعوا أصواتهم كي لا تبتلعهم العتمة. القمع هناك لا يُقاس بعدد البنادق أو السجون، بل بكمّ الخوف الذي يسكن الوجوه، والصمت الذي يملأ الشوارع. إنه صمت الإنهاك، لا الرضا؛ وجع بلا صوت. ومن يكافح للبقاء كل يوم لا يُسأل عن صمته، بل يُنصت لنزيفه الصامت.
الحوثي لم يُسقط الدولة فحسب، بل أعاد صياغة معادلة الخوف. لم يعد التهديد قادماً من الخصم بل من القريب
السبب الأول والأعمق هو الخوف البنيوي. فالحوثي لم يُسقط الدولة فحسب، بل أعاد صياغة معادلة الخوف. لم يعد التهديد قادماً من الخصم، بل من القريب، من زميل الدراسة، أو حتى من الطفل الذي يحفظ شعار الجماعة أكثر من اسمه. لقد اخترق الخوف نسيج الثقة، فصار الإنسان وحيداً حتى في عقر داره، يسير على رؤوس الكلمات، خشية أن تزل إحداها فتكون نهاية صوته… وربما نهايته.
ثم يأتي الإنهاك المعيشي، لا كأزمة عابرة، بل كحالة وجودية. أن تُولد في زمن لا يُمنح فيه الخبز إلا بثمن الكرامة، ولا يُوزّع الغاز إلا بشروط الولاء، يعني أن الثورة تتحوّل إلى ترف لا يقدر عليه المرهقون. الكفاح اليومي من أجل البقاء يحاصر العقل ويخنق الحلم. ومن لا يجد قوت يومه لن يجد صوتاً ليصرخ به. فالمجاعة هنا ليست فقط في المعدة، بل في الروح أيضاً، في الأمل، في احتمال أن يتغير شيء.
وما يزيد المشهد اختناقاً أن البديل المفترض، المتمثّل في الشرعية، لم يكن طوق نجاة، بل خيبة مضافة. فقد تحوّلت من أفق للخلاص إلى مرآة مشروخة تعكس صراعات النخب ومصالحها، لا تطلعات الناس وآلامهم. لم تُقدّم نموذجاً ملهماً، بل نموذجاً مشلولاً، أعاد إنتاج الفساد بصورة منهكة، وارتضى لنفسه التبعية والارتهان. خضعت قراراته لأجندات خارجية كرّست الانقسام والتشظي، فيما تحوّلت أطرافه إلى بيادق في لعبة لا تملك مفاتيحها. وهمشت الأحزاب والقوى المدنية، فلا صوت يعلو إلا صوت من يملك الرصاصة والقوة على الأرض، وأُعيد تشكيل المشهد لا وفق ميزان الشرعية، بل بمنطق الغلبة والقسر. وفي هذا الفراغ، تاهت شريحة كانت تملك أدوات التأثير – من ساسة وأحزاب ومثقفين ورجال قبائل. فالشعوب لا تنهض بالألم وحده، بل حين تبصر أمامها نموذجاً يقود إلى الخلاص. وحين يغيب، يصبح الصمت مهرباً مؤقتاً، والخوف سيّد المرحلة.
في المقابل، يُتقن الحوثي فن السيطرة لا بالقوة وحدها، بل بتطويع اللغة وتسويق المعنى. جعل من "الكرامة" شعاراً يحتكر تفسيره، ومن "العمالة" سيفاً يشهره في وجه المختلفين، ومن "فلسطين" غطاءً يُخفي خيبات الداخل. وحين يتلقّى الأطفال هذه الرواية في المدرسة والمنبر والشاشة، تتكوّن أجيال لا ترى اليمن إلا من نافذة الجماعة، ولا ترى في العالم سوى تهديد. هكذا تموت الثورة قبل أن تولد، ويموت الخيال الذي كان يمكن أن يرسم وطناً يتسع للجميع؛ وطناً يُستعاد فيه صوت الناس فوق السلالة، وتُسترد فيه الكرامة لا كشعار، بل كحق.
ولا يكتمل المشهد دون فهم الركيزة القبلية والجغرافية التي استثمرها الحوثي بدهاء. فقد أعاد هندسة علاقته بالقبائل؛ روّضها بالقوة حيناً وبالتحالف حيناً آخر، ومن تجرّأ على رفض الخنوع أو عارض بطش الجماعة نُكّل به علناً ليكون عبرة لغيره. هكذا أُخضعت القبائل، وأُفرغت من استقلالها الذي شكّل ذات يوم صمّام أمان للمجتمع. وبذلك، لم تفقد القبيلة سلاحها فقط، بل فقدت دورها كقلب نابض في معادلة التوازن اليمني.
الصمت الذي يلف اليمن اليوم ليس مواتاً، بل احتقانٌ يخفي شهوة حياة وكلمة لم تولد بعد
أما المجتمع الدولي، فهو الشريك الصامت في الجريمة. حين تعامل مع الحوثي كأمر واقع، وفتح له أبواب التفاوض، أرسل لليمنيين رسالة قاتمة: إن دمكم لا يكفي، وإن صمتكم لا يُحرج أحداً. فكيف يثور من وجد نفسه في مواجهة الداخل والخارج معاً؟ كيف يُشعل شرارة وهو مُحاصر بصفقات السياسة، وغضّ الطرف، والمصالح العابرة للدم؟
لكن الحقيقة التي لا تُروى غالباً هي أن الشعوب لا تموت، بل تتوارى حين تشتد العتمة. الصمت الذي يلف اليمن اليوم ليس مواتاً، بل احتقانٌ يخفي شهوة حياة وكلمة لم تولد بعد. في الزوايا المظلمة، هناك من يرسم العلم على الجدران، من يهمس بحكايات الوطن، من يغرس فكرة الحرية في عقل طفل. هي مقاومة لا تُرى، لكنها تُراكم، تنضج، وتنتظر اللحظة التي تفيض فيها الحناجر. وحين تنطق، لن تعتذر عن تأخرها، بل ستملأ الفراغ كله دفعة واحدة. فلا تسألوا لماذا لا يثور اليمنيون، بل كيف ظلوا واقفين رغم كل ما اقتلع من تحت أقدامهم، وكيف صمدوا في عاصفة سرقت الصوت لكنها لم تسلب صدى يتأهب ليُدوّي من جديد.
أخبار ذات صلة.
