ربما يتفق معي الكثيرون أن أكثر الدروس التي لا نحبها كطلاب في مدارس العراق خلال الثمانينيات والتسعينيات هو درس الوطنية، ولم نكن نملك تفسيراً لذلك، رغم أنه يحمل اسم الوطنية. وقد أدركت في ما بعد أن الوطنية تتجسد كسلوك وأخلاق، وليست مجرد معلومات ومعارف تُحتوى في كتاب منهجي.
الوطنية ليست أفكاراً أو نظريات أو أساليب بقدر ما هي أمر مسلم به، وليست امتيازاً لفرد دون آخر. فمن الطبيعي أن يحب الإنسان وطنه الذي ارتبط به، وولد على أرضه، وحمل جنسيته، وورث تاريخه، وتجشم همومه ومصائبه.
لكن الوطنية في العراق تنقلب إلى بضاعة يمتلكها البعض ولا يمتلكها آخرون، وأقصد المجاهرة بحب الوطن، أو المجاهرة بالقتال من أجل مصلحة الوطن بالهتاف أو الصراخ أو افتعال الضجيج في ادعاء أمر مسلّم به.
تجارة الوطنيات في العراق هي الأكثر إثارة للجدل كونها تقوم على الكذب لا الصدق، والقول لا الفعل، والادعاء لا الموقف، والأخذ لا العطاء
وكان أكثر الأشخاص مكروهين من قبل الناس هم تجار الوطنية، الذين يسمّيهم عامة العراقيين "باعة الوطنيات". وأكثر الأمور التي "تهدم بيوت الناس" هي المرتبطة بوطنيات البيع والشراء، مثل إطلاق الاتهامات للأبرياء بأنهم أعداء الوطن، أو تبرير زج الشباب في مشاريع موت عبثية بدعوى الدفاع عن الوطن، وتبرير استخدام العنف المفرط من قبل البعض على أنهم حماة أو حراس الوطن.
تجارة الوطنيات في العراق هي الأكثر إثارة للجدل، كونها تقوم على الكذب لا الصدق، والقول لا الفعل، والادعاء لا الموقف، والأخذ لا العطاء. تجارة يدر عليها الكلام ذهباً، فالدموع فيها مزيفة، والمشاعر فيها مصطنعة، والربح فيها له بداية ولا نهاية.
العشرات يتباكون على العراق بالكلام، ويتغنون بعشقه بالشعر، وهم ليسوا مستعدين لأن يعيشوا بين ربوعه أياماً أو أسابيع، لأن لهم حياة أخرى في بلدان أخرى، والمئات لهم في العراق ما حصلوا عليه من امتيازات، وليس ما يؤدون من واجبات.
كان باعة الوطنية معروفين لدى عامة الناس ومعزولين عن المجتمع، لكنهم اليوم يقودون النخب السياسية والاجتماعية
وكان باعة الوطنية معروفين لدى عامة الناس ومعزولين عن المجتمع، لكنهم اليوم يقودون النخب السياسية والاجتماعية، بصفة نواب في البرلمان، ورجال سياسة، وشيوخ عشائر، ومثقفين كبار. فحب العراق بالنسبة للكثيرين "سبوبة" للعيش والارتزاق، رغم أنهم يصورونها قضية أخرى.
وإذا كان تجار الوطنية في السابق يعملون في إطار الداخل ليتزلفوا إلى السلطة ويجنوا ثمار تزلفهم، فإن تجار الوطنية اليوم يعملون لحساب قوى إقليمية خارجية مقابل ما يقدمونه من خدمات، لكنهم يكونون من أعلى المنادين بحب العراق عبر وسائل الإعلام.
وتصبح الفضائيات لدى هؤلاء أمراً لا غنى عنه، فهي مثل شركات غسل الأموال، تعكس مواقف وتصريحات تغسل عار خيانتهم للوطن، وللأمانة، ولشرف المواطنة الذي ذبحوه على الموائد المشبوهة. فتعلو أصواتهم المتباكية على العراق بشكل غريب، والناس تضجر من علو صياحهم، دون أن يكتشف أحد أن هذا الضجيج ليس إلا عملية غسل للمواقف.
وليس سراق المال العام بعيدين عن هذا النوع من التجارة، فيسرقون المال، ثم يصرفون جزءاً منه للتبرع بمشاريع خيرية، ويلجأون إلى الفضائيات لتصوير الجزء الخيّر منهم دون أن يصل أحد إلى الجزء المظلم.
تجار الوطنية أخذوا بالتزايد بشكل كبير، وتجارة الوطنية اتسعت بشكل غير مسبوق، فأصبحت لهذه التجارة أساليبها ووسائلها وطرقها وأرضياتها ومن يشجعها، وربما يندثر شرفاء الوطن تحت غبار المتاجرة، لتتلاشى نواميس الشرفاء بفعل ضجيج المحتالين الذين باعوا واشتروا العراق، الذي كان وظل وسيبقى بضاعتهم المربحة.
أخبار ذات صلة.
