
تبدو مزحة حينما يزعم بعض الروائيين أن شخصيات رواياتهم تفلت منهم أحياناً، إن لم يكن غالباً، لا تقال في معرض الشكوى، ولا أنه يعاني منها، بل بما يوحي بأنه يتعامل مع شخصيات باتت أشبه بالحقيقية، لديها حرية الحركة، حتى أنها تعصى أوامره، وتختط لنفسها مساراً يختلف عن المسار الذي في رأسه، لا تقل عن عملية تمرد.
ما يحيل هذا الموضوع إلى جدل نقدي حول ما إذا كان الكاتب يفرض سطوته المطلقة على الشخصيات التي يبتدعها، أم أن هذه الشخصيات تكتسب ديناميكية داخلية تجعلها تتحكم بمسار السرد، وحتى بالمؤلف نفسه.
لا يكتسب هذا الانفلات غرابة إلا لأن أهمية الشخصية في الرواية لا تقتصر على أنها عنصر سردي فقط، وإنما الأداة التي من خلالها ينقل المؤلف رسالته أو قضيته إلى القراء، ما قد يحرف ما يبتغيه من غاية وهدف، عدا عن الوجهة التي تدفع الأحداث إليها، وما الذي سيطرأ على الحبكة؟ ألن تؤدي استقلالية الشخصية إلى تجاذب، إن لم نقل خلخلة في بناء الرواية؟ إن أي تصور لإفلات الشخصية من سيطرة المؤلف يضع الرواية نفسها في الحرج ما يؤثر في جوهر العمل الروائي.
إن الإلحاح على ما أصبح يدعى "وهم الاستقلالية" شائعٌ بين الكتاب، والذين اختبروا هذه الظاهرة يتحدثون عن امتلاك شخصيات رواياتهم قراراتها، إلى حد أنها لا تنفذ ما يملى عليها، بل يبلغ الشطط الادعاء بأنها تملي عليهم ما يكتبونه، حتى أن الشخصيات تصبح حقيقية لدرجة أنهم يُجرون معها محادثات خيالية. وقد يحتاجون إليها للقيام بشيء ما، لسببٍ في الحبكة، لكن الشخصية ترفض القيام به.
النجاح الفني الحقيقي لا يتأتى بالسيطرة الصارمة على الشخصيات
ما يضعنا أمام رواية يتصرف أبطالها بمعزل عن الكاتب، رواية تكتب نفسها بنفسها، وكأن الكاتب يكتبها بوعي الشخصية لا بوعيه. يمكن اعتباره في هذه الحالة مسيّراً لا مخيراً.
وأيضاً هناك كتاب يقولون بأنهم يُسيطرون على شخصيات رواياتهم سيطرةً كاملة، ويُطوّرون وحدهم سردياتها وحكاياتها، ويُراكمون تاريخها وخصوصياتها، إلى حد القول إنهم كي يحكموا قبضتهم عليها يضطرون إلى التخلص من بعض الشخصيات لمنع القصة من الانحراف عن مسارها.
ولا نعدم كتاباً يقولون إن شخصيات رواياتهم تزداد استقلالية مع مضي الوقت في الكتابة، فبعد حوالي 30 ألف كلمة، تتبلور أفكار الشخصيات الرئيسية، وتتخذ نمطاً محدداً لسلوكها وحياتها، ما يعني بشكل إجمالي أنه بعدما تم إنجاز مقدار النصف تقريباً من الرواية، تُسيطر الشخصيات عليها.
لا يمكن إنكار أن "إفلات" الشخصيات يؤدي إلى تطورات غير متوقعة، تعزز بشكل متناقض عطب الرواية أو جودتها. إن النجاح الفني الحقيقي لا يتأتى بالسيطرة الصارمة على الشخصيات، بل في التمكين لبيئة من خلالها تتطور بشكل طبيعي. كما أن الفلتان يساهم في حيوية العمل، ويجعله أكثر جاذبية وتشويقاً، على ألا يخل بأبعاد الشخصية المرسومة، وبشكل يضفي المصداقية على الرواية.
أخيراً، تتنوع الآراء في هذا الصدد، مثلما تتنوع التجارب، فمنها ما يعتبر الشخصية مجرد كائن مصنوع من حبر على ورق وأداة طيعة في يد الكاتب، ومنها ما يرى فيها كائناً حياً مستقلاً يمتلك وجوداً خاصاً به.. في النهاية مهما كانت الشخصيات طيعة أو متمردة فهي من صناعة الروائي وتنسب إليه.
* كاتب من سورية
