
قبل سنوات قليلة كان أثرياء ومليونيرات العالم وهوامير المال وقناصو الصفقات يتهافتون للعيش والاستثمار في إسرائيل باعتبارها الأكثر استقرارا وأمانا في منطقة الشرق الأوسط من وجهة نظرهم، والأكثر تحقيقا للربحية والنمو، والأفضل تطورا من حيث التكنولوجيا وامتلاكا للبنية التحتية، والأفضل من حيث امتلاك التشريعات والقوانين الميسرة للاستثمار والمحفزة لجذب الأموال والصناعات المتطورة، وأفضل بيئة للشركات الناشئة ومتوسطة الحجم ووجهة مزدهرة للباحثين عن الثروة. كما أن لديها قطاعا ماليا ومصرفيا قويا وسيولة نقدية ضخمة، وتطبق أعلى معايير الشفافية والحوكمة والامتثال. وكانت إسرائيل أيضا واحدة من الدول القليلة التي ارتفع فيها مستوى معيشة الفرد والدخل السنوي بشكل ملحوظ، ولذا حلت في المركز الرابع بين أكثر المناطق الجاذبة لاستقطاب أصحاب الملايين.
ووجدنا سباقا من أثرياء وشركات عالمية كبرى ومتعددة الجنسيات نحو الاستثمار في دولة الاحتلال لدرجة أن شركة بحجم إنتل الأميركية قررت في نهاية عام 2023 ضخ استثمارات جديدة بقيمة 25 مليار دولار في مشروعاتها الصناعية في إسرائيل وإقامة مصنع جديد للرقائق تفوق قدراته الإنتاجية مصنعها الرئيسي في الولايات المتحدة، وكان هذا أكبر استثمار دولي على الإطلاق تباهت به إسرائيل لشهور.
وجذبت دولة الاحتلال، إضافة إلى أثرياء عالميين، أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم وفي المقدمة صندوق الثروة السيادي النرويجي البالغ حجمه 1.8 تريليون دولار، ويعتبر الأكبر في العالم، كما جذبت بنوك الاستثمار الكبرى والشركات العالمية المتخصصة في صناعة الأسلحة والأدوية والتقنية والتكنولوجيا الفائقة والماس والسيارات. وساهم هذا الزخم الاستثماري في رفع صادرات إسرائيل إلى مستوى 165 مليار دولار في العام 2022، منها صادرات عسكرية بقيمة 12.5 مليار دولار.
بل إن بنك الاستثمار السويسري الشهير "كريدي سويس" رصد قبل سنوات وجود عدد ضخم من أثرياء العالم وأصحاب الملايين الذين يعيشون داخل دولة الاحتلال، وذكر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 أن العدد يتجاوز 157 ألفاً و286 مليونيراً، بالإضافة إلى عشرة أثرياء من أصحاب المليارات، وأنه من المتوقع أن يصل إلى 174 ألف مليونير بحلول عام 2024، و20 مليارديراً، خصوصاً بعد توقيع اتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب. وتساءلت بنوك استثمار عالمية وقتها عن سر انتقال الأغنياء إلى إسرائيل التي تحولت إلى قوة اقتصادية للتكنولوجيا المتقدمة (الهايتك).
منذ السابع من أكتوبر، وقبلها أزمة الانقلاب القضائي، تغيرت الصورة تماماً بسبب تدهور الوضع الأمني والاقتصادي داخل إسرائيل التي شهدت موجة هروب لأثرياء العالم، صاحبها نزوح ضخم للأموال، فقد غادر نحو 1700 مليونير دولة الاحتلال خلال 2024
وعقب تسارع مشاريع التطبيع العربية ــ الإسرائيلية وإبرام اتفاقيات أبراهام، زاد تدفق المال الخليجي والعربي على إسرائيل، ففي مارس/ آذار 2021 مثلا، أعلنت الإمارات تأسيس صندوق بقيمة عشرة مليارات دولار لدعم الاستثمارات في إسرائيل. وفي نهاية هذا العام تدفق على إسرائيل أكبر استثمار عربي، حيث اشترت شركة "مبادلة للبترول" التابعة للحكومة الإماراتية حصة شركة "ديليك" الإسرائيلية للغاز الطبيعي، البالغة 22%، من أسهم حقل الغاز الإسرائيلي "تمار" مقابل 1.1 مليار دولار.
إلا أنه منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وقبلها أزمة الانقلاب القضائي، تغيرت الصورة تماماً بسبب تدهور الوضع الأمني والاقتصادي داخل إسرائيل التي شهدت موجة هروب لأثرياء العالم والنخب المحلية، صاحبها نزوح ضخم للأموال، فقد غادر نحو 1700 مليونير دولة الاحتلال خلال عام 2024، وفق أرقام صادرة عن شركة "هينلي آند بارتنرز" المتخصصة في شؤون الهجرة. وتراجع عدد الأثرياء في مدينتي تل أبيب وهرتسليا من 24.3 ألفاً في عام 2023 إلى 22.6 ألفاً في 2024، كما أنه من المتوقع أن تشهد إسرائيل مغادرة نحو 350 مليونيراً هذا العام، وربما يتضاعف العدد في ظل الدمار الواسع الذي أحدثته صواريخ إيران في البنية التحتية الإسرائيلية وسمعتها المالية والاستثمارية ومنشآتها الاقتصادية.
لا يتوقف الأمر عند حد نزيف المال بل امتد إلى هجرة الكفاءات وخسارة إسرائيل رأسمالها البشري في أكثر القطاعات حيوية، ففي عام 2024، غادر 18.2 ألف شخص دولة الاحتلال، معظمهم من أصحاب الكفاءات العالية. وفي قطاع التقنية الحيوي، غادر نحو 8300 موظف، أي 2% من قوة القطاع.
إسرائيل العنصرية المنبوذة عالمياً فقدت بريقها الاستثماري وجاذبيتها المالية وسط تدهور اقتصادي وأمني حاد، وفقدت معها النخبة المالية الثقة ببيئة الاستثمار السامة، وبدت الصورة أمام هؤلاء وغيرهم غامضة وقاتمة لسنوات طويلة مقبلة، وحتى لو انتهت الحرب في غزة ومع إيران، فإن الصورة الوردية الجذابة القديمة لإسرائيل لم تعد قائمة، ولذا سيفكر أثرياء العالم عشرات المرات قبل إعادة أموالهم إلى دولة احتلال مارست أسوأ جريمة إبادة جماعية في التاريخ.
