
لم يُفسح المسرح اللبناني، كما ينبغي، حيّزاً لزكي محفوض (ولكثيرين سواه) كي يقدّم ما في جعبته من معارف مسرحية كان يفترض بها أن تُختبر فوق الخشبة. ظل محفوض يسكن في جوهر المسرح، في منطقة نائية عن "المسرحة" بمعناها البصري والاحتفالي والتسويقي. مسرحٌ يطلّ على سوقٍ شحيحة الحضور، رغم عمق تجاربه التي لا تجد طريقاً إلى العرض إلّا بجهود فردية جبّارة، لتتحوّل لاحقاً إلى محطات في ذاكرة الحركة المسرحية، يُعاد تصنيفها بوصفها "تجارب جريئة وثريّة" في أطروحات الماجستير والدكتوراه، لا في فضاءات العرض الفعلي.
في عرضه البيروتي يوم 26 يونيو/حزيران الحالي، قدّم زكي محفوض مسرحيته "شليطا في البيت الأبيض"، جامعاً عناصر المسرح الأساسية، ومكثفاً إياها في نص من تأليفه، وضعه على "خشبة متخيّلة" أجرى عليها بروفاته الكتابية والأدائية، بمساعدة فنية احترافية (وإن كانت مجانية) من مقربين إليه: عايدة صبرا، وإيلي نجيم، ويعقوب محفوض. هكذا نشأت تجربة مسرحية مصنوعة ذاتياً، تتوسّل شكل "الحكواتي" وتُلحقه بفعل المسرحة، وسيلةً للهروب من كلفة "العلبة الإيطالية"، المكلفة على المبدعين الذين يختنقون من التوقف الطويل عن العمل.
محفوض في هذا العمل بدا كمَن يحاول النجاة من ذلك الاختناق. قدّم عرضاً موّهه على هيئة "حكواتي" لتقليص الأعباء الإنتاجية، لكنه في جوهره، أنجز مسرحية متكاملة الأركان الفنية. الشخصيات واضحة ومستقلة، وحاضرة في دراما قائمة على جدال وتفاعل. الأهم أنه تمكّن من صوغ حكايته في قالب واقعي مفهوم، رغم فانتازية بيئته، واستطاع، من خلال خبراته الحياتية، أن يقرّبها إلى تجارب المتفرج اللبناني الذي تفاعل بوعي مع اللعبة المسرحية.
واستخدم محفوض طرائق المسرح التفاعلي بأسلوب أقرب إلى ما اشتهر به الشيخ متولي الشعراوي، حين يدعو المشاهد إلى الإمساك بأطراف الحكاية المتشظّية، وإعادة وصلها بخيط سردي. أنتج كوميديا لذيذة، لا لأنها محكمة الصياغة، بل لأنها متجذّرة في التجربة الحياتية للمشاهد، الذي أدرك أن الفانتازيا المعروضة ليست سوى مرآة مشوّهة لواقعه، بل الواقع نفسه وقد ارتدى قناع العبث.
في بناء الحكاية، يستلهم محفوض أسلوب "كليلة ودمنة"، ويسرد بأسلوب أدائي حكائي حكاية الهجرة من خلال شخصية "شليطا" التي تبحر من الشاطئ الفينيقي إلى البيت الأبيض الأميركي، لا كمهاجر أو موظف، بل كصورة هزلية لرمزَي الحزبين الأميركيَين: الحمار والفيل. يبدأ من بدء الخليقة، يمر بطوفان نوح، ثم إلى سفينة كولومبوس التي تترك حبيبة شليطا في "اللامكان". لحظةً، تتوقف الفانتازيا وتلوّح بالعودة إلى زمان ومكان "صحيحَين"، لكنّ المشاهد اللبناني، بخبرته، يُعيد وصل الحبال، فيدفع محفوض إلى الاستمرار بشغف. وهكذا يُخلق فضاءٌ مسرحيٌ كاملٌ ومفتوح، رغم شحّ الإمكانات.
المفاجئ أن محفوض يُبرز وثائق حقيقية تدعم طرحه الفانتازي، ثم يعود بالحكاية إلى بدايتها، لكن بطريقة كولومبوس الذي ظنّ أنه بلغ الهند فحطّ في سانت دومينيغو، وصولاً إلى أمريغو الذي "اكتشف" القارة وأعطاها اسمه. وبين كل هذه الحلقات، تبقى العناصر الدرامية مترابطة، رغم تباعدها الظاهري، ويظل محفوض يقود المشاهد بسرد محكم يتلاءم مع بعثرة الشخصيات.
هي كوميديا سوداء مشغولة بالمماحكات الذاتية، تحاول تخفيف صدمة رؤية الذات من الخارج. تصل بمحفوض إلى لحظات بالغة التعقيد، تتطلب من "المحترف" لا المهني فحسب، أن يفكّكها، ويعيد تركيبها، ثم يقدّمها كياناً يمكن التعامل معه. لقد صنع محفوض خشبةً داخل مخيلة المتفرج، وزيّنها بإضاءة وسينوغرافيا وصوت، من دون أن تكون موجودة فعلياً. مهاراته الاحترافية، المهدّدة بالوأد، أنقذته من اختناق العزلة الإنتاجية، فاخترع أدواته، وطبّقها، ونجح.
نجح في إيصال الحكاية. بدا كمن يصفّق بيد واحدة. لكنّه صفّق، وفرح، كأنه أعاد بناء فلك نوح أو مركب كولومبوس، بين المسرح والناس. هي تجربة تستحق التأمّل في واقع المسرح اللبناني – وربما العربي. فالإبداع موجود، لكن السوق مفقودة. وربما، كما يوحي محفوض، حان الوقت لأن نتعلّم التصفيق بيدٍ واحدة... قبل أن يتسمّم المبدع بإبداعه.
