
اسمها جوري، والجوري هو الورد، ومنه يؤخذ العطر ويُقطّر.
هل شاهدتم صورها على شاشات القنوات الإخبارية؟ إنها جوري المصري التي قُتلت بسبب التجويع في غزة، ولها أب وأم وشجرة عائلة قُصفت وقُطعت منها وهي في الشهر الثالث من عمرها ليس أكثر، قبل أن تستوي طفلةً تلثغ بالكلمات، قبل أن تتعثّر وهي تقف وتمشي بالقرب من سريرها، وذلك الفرح الذي ينفجر ويفوح عطراً وقلوب العائلة تخفق بينما هي تمشي وتقع ثم تمشي وتضحك.
يفوح الورد في الحدائق، في شرفات البيوت، ويختبئ في قوارير العطر، وجوري قُصفت ليس لأن عمر بعض أصناف الزهور قصير، بل لأن ثمة من لا يتوقف عن قتل الأطفال هنا، في قطاع غزة، والأرقام مروّعة وغير مسبوقة.
إنهم نحو 18 ألف طفل قُتلوا، ومن بينهم جوري التي أظهرتها صور القنوات الإخبارية هيكلاً عظمياً، يا إلهي في سمائك.
ماذا يفعلون سوى قتل الفلسطينيين منذ جاؤوا إلى بلادنا، غزاة لا ضيوفاً طيبين، بأسلحتهم الرشاشة التي أصبحت صواريخ باليستية وترسانة نووية تكفي لتدمير الشرق الأوسط برمته؟ ماذا يفعلون في بلادنا، في هذه الحياة؟ تحت سماء الله سوى القتل كأنهم في مهمة رسولية مقدّسة؟ ثم يستديرون إلى الحائط ويبكون لأن الرب لم يمنحهم قوة أكبر لإبادة من تبقى من فلسطينيين.
وكانت ثمة غصة في قلب غولدا مائير، ذلك أنهم (الفلسطينيين) لم يتركوا مجالاً لجيشها سوى قتلهم: "إنهم يجبروننا على قتلهم"، ما يعني أنّ على القتيل، وهو آلاف وليس عشرات، وهو جوري المصري وشعبها الذبيح، أن يعتذروا إلى قاتلهم وهم يودعون أحبابهم، ويدفنون ما تبقى من جثامينهم.
يقول المدير العام لوزارة الصحة في غزة، منير البرش، للتلفزيون العربي إن جوري استُشهدت بسبب سوء التغذية ونفاد الحليب. يقول إنهم (الإسرائيليين) يقتلون 28 طفلاً كل يوم، بمعدل طفل كل 40 دقيقة.
هل يعرف العالم ما يحدث هنا من مقتلة لم يعرفها تاريخ البشر حتى في أسوأ الحروب الكبرى؟
ولماذا نرى صور نجوم السينما على شاشات ضخمة في عواصم العالم، ولا نرى صور جوري المصري في عربة بشاشة كبيرة تجوب نيويورك وباريس ولندن وروما وسواها من عواصم؟ ليعرف العالم بعض ما يجري هنا.
الدمع نضب يا جوري والصوت بُحّ وصوت المقرئ يأتي من بعيد وهو يتلو ما تيسّر من سُوَر، من كلام الرب، وهو يكفّنك ويُسجّيك في تراب أجدادك، في أرضهم التي سُلبت منهم ولم يتوقفوا عن محاولة استعادتها. وفي كل منعطف، عند كل زاوية شارع، في كل زقاق، على شرفات البيوت، ثمة جوري يفوح عطراً، هو أنت إذ تُقتلين قبل أن يُتاح لك أن تري بحر غزة، أن تكبري وتُحبي وتُحَبي ويصبح لك أطفال تقفين على بوابة البيت عندما يذهبون إلى مدارسهم، وأنت مطمئنة إلى أن الله يرعى خطاهم.
لقد سلبوك مصيرَ الطيور وهي تعود إلى البحار الدافئة كل عام، وحرمونا من أن نكون مثل بقية خلقه فنموت على أسرّتنا ونترك وصايانا للأولاد، فماذا فعلنا ليكون لنا الشوك يا جوري في كل حديقة، والموت في كل قصيدة يرتجلها شاعر يسأل الرب ويناشده بأن يكفّ يد القتل عن شعبه الذبيح؟
ليتنا جراء في برية، ليتنا قنافذ في التراب، ليتنا أرانب تتقافز غافلة عن الموت يا جوري، كي تنجي ولا نراك وشقيقاتك وأشقاءك تُذبحون وتُقطّع جذوركم من ترابكم وأرضكم التي هي أرض صغيرة بحروب لا تَسعها أرض الله كلها وكل أرض أخرى يا جوري.
ولعلها مرثية أخرى يا جوري لشعب يُذبح أينما ذهب، ولذلك يُسمّي طفلته جوري لأنه العطر يفوح ويبقى، والورد وإن نشف يُحفظ في الكتاب، ويُنثر فوق الرؤوس في الأعراس، لأن ثمة شعباً هنا يتحايل على الموت فيسمّيه جميلاً، وعلى القتل فيسميه شهادة، كأنه ينتظر حياة أخرى في أرض أخرى لا يُقتل فيها الأطفال أمام آبائهم فلا يشعرون بالعجز ولا يثقل قلوبهم حزن أسود لا يزول.
ولله الأمر من قبل ومن بعد يا جوري، يا ورداً قُصف قبل أن يفوح يا ابنتي.

أخبار ذات صلة.
