وفاة المستشار المصري أحمد سليمان .. قاضي حلم الاستقلال والخذلان
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

رحل اليوم المستشار أحمد سليمان، وزير العدل الأسبق وأحد مؤسسي تيار الاستقلال في القضاء المصري، عن عمر ناهز 75 عاماً، بعد رحلة طويلة قضاها في محراب العدالة، وبين أروقة المحاكم وقاعات المرافعة، مؤمناً بأن الكلمة العادلة لا تموت حتى في وجه العاصفة. شغل أحمد سليمان منصب وزير العدل في حكومة هشام قنديل عام 2013، ليكون القاضي الوحيد من تيار الاستقلال الذي تولّى هذا المنصب الرفيع، لكنه غادره سريعاً عقب أحداث 3 يوليو/تموز 2013، مفضّلاً الانسحاب بصمت، رافضاً ما اعتبره تدخلاً في عمل القضاء، ومتمسكاً بمواقفه الرافضة لتسييس العدالة.

لم يتورط الرجل في صراعات شخصية ولم يسعَ للأضواء والشهرة، لكنه ظل حاضراً في ذاكرة القضاة صوتاً نقياً نادراً، لم يساوم يوماً على مبدأ ولم يركن إلى السلطة أو يطلب رضاها. وبعد عزله من منصبه، انسحب في صمت نبيل لكنه لم ينكسر. وعاش السنوات الأخيرة بعيداً عن الأضواء، لكنه ظل حاضراً في ضمائر من آمنوا برسالته، مدافعاً عن مبادئه حتى آخر أيامه، متحملاً كلفة مواقفه بكل شموخ. المستشار أحمد سليمان لم يكن مجرد مسؤول رفيع، بل كان صوتاً للعدالة حين خفتت الأصوات، وظل في ذاكرة من عرفوه مثالاً للقاضي الإنسان، الذي جمع بين الحزم والرحمة، وبين المهنية والضمير.

عرفه زملاؤه وتلاميذه قاضياً رفيع الخلق، نزيه اليد، عفيف اللسان، لا يساوم في الحق، ولا يتراجع عن قناعاته مهما ضاقت السبل. تقلد منصب وزير العدل في فترة حرجة من تاريخ البلاد، وترك المنصب رافضاً ما اعتبره مساساً بكرامة القضاة أو تدخلاً في شؤون القضاء. وجاءت وفاة المستشار الراحل مفاجئة، بحسب ما أعلن نجله الذي كتب عبر صفحته الشخصية على موقع فيسبوك نعياً إنسانياً مؤثراً قال فيه: "توفي إلى رحمة الله والدي العزيز، الحر الأبي، المستشار أحمد سليمان، وزير العدل الأسبق، عاش مدافعاً عن الحق وأهله، محباً للخير. وتعرض لصنوف من الظلم من زملاء وتلاميذ، إلا أن ذلك لم يثنه عن الوقوف شامخاً، مرفوع الرأس. لم تنكسر هامته ولم يركع إلا لله"، وأضاف "توقف القلب فجأة بعد عودته من صلاة العشاء. وآخر كلماته قبل أن يُغشى عليه: (أنا كنت بتوضى لصلاة الفجر)، رغم أن الساعة كانت الحادية عشرة والنصف مساءً، وكأنه كان في عالم الآخرة، حيث الراحة بلا شقاء، حيث الإحسان بعد الصبر على البلاء".

وولد المستشار أحمد سليمان في محافظة المنيا، على بعد 200 كم جنوب العاصمة القاهرة، وتدرج في السلك القضائي حتى وصل إلى منصب رئيس بمحكمة استئناف بني سويف، ثم تولى رئاسة إدارة التفتيش القضائي، واشتهر بنزاهته وحزمه، كما عُرف في الأوساط القضائية بدفاعه المستمر عن استقلال السلطة القضائية، ورفضه المساس بكرامة القضاة أو استخدام القضاء أداةً سياسية. 

ومنذ كان المستشار أحمد سليمان وكيلاً للنائب العام  آمن باستقلال القضاء، حيث مثل أمامه في نهاية سبعينيات القرن الماضي طالبان بكلية هندسة المنيا مكبلين ومعصوبي العينين، ومتهمان بإثارة الشغب والمظاهرات في جامعة المنيا احتجاجاً على اتفاقية السلام مع الاحتلال الإسرائيلي، وكان مرفقاً بقرار العرض علي النيابة مذكرتي تحريات صادرة عن الأجهزة الأمنية فما كان من سليمان إلا أن أمر بفك قيودهما وسمح لهما بتناول الطعام، وبعد التحقيق معهما أمر بإخلاء سبيلهما ضارباً عرض الحائط بمذكرتي التحريات، حيث كان يؤمن أن التحريات لا تُعبر إلا عن اعتقادات مجريها ما لم تستند إلى أدلة مادية وهي القناعة التي أمدها لاحقاً حكم لمحكمة النقض المصرية.

ومن المحطات البارزة في حياة سليمان أثناء توليه وزارة العدل معارضته أي مساس باستقلال القضاء، مهما كان هوية من يرغب في ذلك. ولن ينسى له التاريخ رفضه التعديل في قانون السلطة القضائية والنزول بسن تقاعد القضاة من 70 إلى 60 عاماً انطلاقاً من اعتقاده بأن هذا التعديل يمس استقلال القضاء. كما رفض الوزير الراحل اتهامات وجهها الرئيس الراحل محمد مرسي إلى أحد القضاة، خلال خطابه الشهير في الصالة المغطاه باستاد القاهرة، بالتلاعب بنتيجة الانتخابات. معتبراً ذلك إهانة للقضاة والقضاء، بل إنه تدخل وأقنع مؤسسة الرئاسة بإصدار بيان يؤكد احترام الرئيس للقضاة وإيمانه باستقلال القضاء ودوره في ترسيخ العدالة.

تبنى سليمان موقفاً قوياً من إحالة أكثر من 100من "قضاة البيان" و"قضاة من أجل مصر" لمجلس الصلاحية حيث تولي بنفسه الذود عن هؤلاء القضاة، معتبراً قرار الإحالة مخالفاً للقانون والدستور ولاستقلال القضاء، خصوصاً أن هؤلاء لم  يطالبوا بأكثر من احترام الدستور وإرادة الشعب والحث علي المصالحة الوطنية. بل إنه كان يقف وراء خوض معركة قانونية شاملة ضد قرار الإحالة ومواصلة كل مراحل التقاضي ضد قرار عزل القضاء، وصولاً إلى القضية الأخيرة الخاصة بمخاصمة مجلس التأديب الأعلى، انطلاقاً من قناعته بأن هذه قضية تاريخية يجب خوضها حتى النهاية.

حملات تشويه طاولت أحمد سليمان

بعد عزله من منصبه عقب أحداث يوليو/تموز 2013، واجه المستشار الراحل حملات تشويه وبلاغات أمنية، وخضع للتحقيقات أكثر من مرة، من دون أن تثبت عليه أي تهمة. ورغم ذلك، لم يغادر البلاد وظل صامداً في بيته وبين أسرته، يعيش حياة بسيطة بعيداً عن الأضواء، متمسكاً بسيرته القضائية النظيفة، وسلوك القاضي الذي لا تنال منه العواصف.

وكان سليمان خلال سنواته الأخيرة يعاني وضعاً أشبه بالإقامة الجبرية، حيث كان ملتزماً بزيارة مكتب مأمور قسم المنيا الجديد بعد الإفراج عنه، وبعد أكثر من عام أصبحت زيارة أسبوعية يقوم بها أمينا شرطة لمنزله للاطمئنان على عدم مغادرته محافظة المنيا. لكن ظهور سليمان على أحد الفضائيات ناعياً المستشار طارق البشري عند وفاته، أثار استياء الأجهزة الأمنية وعادت المضايقات مجدداً، حيث تم إلزامه لفترة بالقيام بمتابعة بمكتب مأمور قسم المنيا الجديد لمدة ثلاثة أشهر قبل الاكتفاء لاحقاً بمتابعة مرة أسبوعياً من قبل أمناء الشرطة في منزله.

في السنوات الأخيرة، التزم المستشار سليمان الصمت، ولم يظهر في وسائل الإعلام، لكنه بقي حاضراً في ذاكرة القضاة والمشتغلين بالشأن العام بوصفه أحد النماذج النادرة لقاضٍ جمع بين الحزم المهني والضمير الأخلاقي، وبين الشجاعة والصبر. وأثار خبر وفاته موجة من التعاطف والحزن على منصات التواصل الاجتماعي، خاصة بين أعضاء السلطة القضائية، ونشطاء المجال الحقوقي ممن استعادوا مواقف الرجل ووقفاته في ملفات استقلال القضاء.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية