
عام 2020، أذهلت المخرجة الجنوب أفريقية بيبا إيرليش العالم بفيلمها الوثائقي My Octopus Teacher الذي حصد جائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي، مقدّماً قصة حميمية بين الإنسان والطبيعة عبر علاقة فريدة بين الغواص كريغ فوستر وأخطبوط في أعماق المحيط. بعد خمس سنوات، تعود إيرليش بعمل جديد لا يقلّ تأثيراً: Pangolin: Kulu’s Journey (البنغول: رحلة كولو)، المعروض حصرياً على منصة نتفليكس منذ إبريل/نيسان الماضي، بالتزامن مع يوم الأرض العالمي.
لا يكتفي الفيلم بتوثيق إنقاذ حيوان مهدَّد بالانقراض، بل يقدّم رحلة تحوّل إنساني وبيئي، مسلطاً الضوء على البنغول، أحد أكثر الثدييات تعرضاً للاتجار غير المشروع في العالم، بسبب اعتقادات شائعة في الطب التقليدي الآسيوي بشأن فوائد حراشفه. وكما في عملها السابق، تدمج إيرليش بين الجمال البصري والعمق العاطفي، لكنها في "البنغول: رحلة كولو" تذهب أبعد، مركّزةً على التوتر بين الأسطورة والواقع العلمي، وبين الاستشراق الغربي والرواية المحلية في جنوب أفريقيا.
تلتقط الكاميرا المخلوق الغريب وهو يتحرّك بخفة بين أعشاب السافانا، بجلده المُدرع كفارس قديم، ولسانه الطويل كسيف سحري. لا يمكن للمشاهد إلا أن يتساءل: هل ننظر إلى كائن حيّ، أم إلى أسطورة؟ خلف جماليات الصورة، تتكشف طبقات أعمق من التناقضات. فهناك سردية "الرجل الأبيض المنقذ"، وهناك "البطل البيئي" الذي تصنعه آلة "نتفليكس" بما يلائم منطق السوق.
يتتبع الفيلم غاريث توماس، متطوعاً في مجال الحفاظ على الحياة البرية، خلال عملية إنقاذ رضيع بنغول يدعى "غيجيما"، انتُزع من تجار غير شرعيين في جوهانسبرغ. وعلى مدى 18 شهراً، يكرّس توماس جهده لإعادة تأهيل الحيوان الذي يُعاد تسميته لاحقاً بـ"كولو" (السهل بلغة الزولو)، تمهيداً لإطلاقه في البرية.
يستعرض الفيلم تفاصيل الإجراءات البيطرية، ويروي في الوقت نفسه تحوّل توماس من رجل يعاني من فرط النشاط وضياع المعنى، إلى شخص يجد هدفاً في رعاية مخلوق لا يستطيع النطق أو الركض (البنغول يتدحرج عند شعوره بالخطر). ومن خلال مونتاج ذكي، تبرز إيرليش ثنائية الخلاص: إذ بينما ينقذ توماس كولو، ينقذه كولو بدوره من فراغه الوجودي.
منذ فيلم The March of the Penguins عام 2005، تتكئ الأفلام الوثائقية البيئية الناجحة على بنية الرحلة. وفي "البنغول: رحلة كولو"، تُقسّم حياة البنغول إلى ثلاث مراحل: الفقدان، عند اختطافه ومرضه؛ ثم الخلاص، عبر علاقته بغاريث توماس وتعلّمه الثقة؛ وأخيراً التحرير، بعودته إلى البرية كائناً مستقلاً. هيكل لا يبتعد كثيراً عن حكايات الأبطال الأسطوريين.
في ثقافة قبائل الفيندا، يُعدّ البنغول كائناً مقدساً، يُعتقد أنه يجلب المطر، وتُستخدم دماؤه في طقوس الحماية. يلمّح الفيلم إلى هذه الأسطورة، لكنه لا يغوص فيها، بل يحوّلها إلى خلفية غرائبية تعزّز غموض البنغول، فيما يُمنَح توماس دور "المفسر العلمي" والمنقذ العقلاني. ورغم أن الفيلم يعرض البنغول كطوطم مقدّس، إلا أنه لا يتجاهل النقد الذاتي: فـ"كولو" يتحوّل، في لحظات كثيرة، إلى أداة سردية تعزز قصة توماس، لا العكس.
الكاميرا تصوّر "كولو" بوصفه كائناً غريباً يحتاج إلى تدخل الغرب. غاريث توماس، الرجل الأبيض، يظهر فرداً متحضراً قادراً على فهم البرية أكثر من أهلها الأصليين (كما في مشهد تعليمه الفريق الأفريقي كيفية التعامل مع البنغول). يروّج هذا النموذج لفكرة أن الإنقاذ البيئي مسؤولية أفراد أبطال، متغافلاً عن أن أزمة البنغول بالأساس هي نتيجة أنماط رأسمالية عالمية: من الاتجار بالحيوانات إلى تدمير الموائل.
"البنغول: رحلة كولو" يصوّر عمليات إنقاذ فردية مؤثرة، لكنه يتفادى مساءلة البُنى الأكبر: شركات الأدوية التي تروّج لأسطورة الحراشف، أو الحكومات المتواطئة التي تغضّ النظر عن جرائم الاتجار. وبين بنية سردية جذابة وصور خلابة، يبقى الفيلم عملاً بصرياً مدهشاً وإنسانياً، لكنه يضع المشاهد أمام سؤال ملحّ: من يُنقذ مَن؟ وهل الخلاص البيئي فعل فردي، أم مشروع سياسي جماعي يتطلب مساءلة النظام لا تمجيد الأبطال؟
