
يبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أرسى أسلوباً جديداً لإدارة الحروب والدبلوماسية المصاحبة لها. لا نتحدث عن التفكير الاستراتيجي هنا، ولا السيناريوهات التي يضعها عسكريون محنكون، بل عن منشورات على منصات التواصل الاجتماعي، إذ بات يستخدم منصته الخاصة للتواصل الاجتماعي، تروث سوشال، منبراً مباشراً لإعلان قرارات حاسمة بشأن الحرب بين إسرائيل وإيران، متجاوزاً بذلك البروتوكولات الدبلوماسية التقليدية، وآليات التخطيط العسكري الاستراتيجي المعقدة.
إعلان القرارات العسكرية والدبلوماسية
في 23 يونيو/حزيران الحالي، استخدم ترامب "تروث سوشال" ليعلن تفاصيل عملية عسكرية أميركية استهدفت المنشآت النووية الإيرانية. في منشور الساعة 3:52 من بعد الظهر (بالتوقيت المحلي)، وصف رد إيران بـ"الضعيف جداً" على "إبادة منشآتها النووية"، وأشاد بالإشعار المسبق الذي قدمته طهران لتقليل الخسائر البشرية، في إشارة إلى الهجوم الصاروخي الذي شنته إيران على قاعدة أميركية في قطر الاثنين. هذه التصريحات لم تعلن عبر القنوات الرسمية التقليدية، بل عبر منصة رقمية خاصة يملكها الرئيس الجمهوري، ما يشكل نقطة تحول في طبيعة الخطاب السياسي الرسمي. بعد ساعتين، فاجأ ترامب العالم بإعلانه "وقف إطلاق نار كاملاً وشاملاً" بين إيران وإسرائيل، وكتب: "بافتراض أن الأمور ستسير كما ينبغي -وهو ما سيحدث- أود أن أهنئ الدولتين، إسرائيل وإيران، على امتلاكهما القدرة والتحمّل والشجاعة والذكاء لإنهاء ما يجب أن يُسمى حرب الأيام الـ12". وأضاف: "هذه حرب كان من الممكن أن تستمر لسنوات، وتدمر الشرق الأوسط بأكمله، ولكن ذلك لم يحصل، ولن يحصل أبداً!" رغم أن هذا الإعلان جاء قبل أي تأكيد رسمي من الطرفين، فقد تبعته تأكيدات إسرائيلية وإيرانية، مع دور قطري بارز في الوساطة، حسب وكالة رويترز.
تضخيم إنجازات عسكرية وتهميش المعلومات الرسمية
كما استخدم ترامب "تروث سوشال" لتضخيم حجم الأضرار التي لحقت بالمنشآت النووية الإيرانية، مؤكداً أنها "هائلة"، ومعلناً أن منشأة فوردو النووية "محيت تماماً"، رغم تحفّظات المسؤولين العسكريين الأميركيين والإسرائيليين الذين قدموا تقييمات أولية أكثر حذراً. في الوقت نفسه، شن ّترامب هجمات متكررة على وسائل إعلام بارزة مثل "سي أن أن" و"أن بي سي" و"إيه بي سي"، واتهمها بـ"الكذب و"التقليل من حجم الأضرار".
كما شنّ هجوماً سياسياً على نواب جمهوريين معارضين للضربات على إيران، لا سيما النائب توماس ماسي الذي دعا إلى ضرورة موافقة الكونغرس على أي تحرك عسكري، ما أثار جدلاً داخل الحزب الجمهوري.
وخلافاً للخطاب الدبلوماسي المعتاد، تحدث ترامب صراحة عبر "تروث سوشال" عن إمكانية "تغيير النظام" في إيران، قائلاً: "إذا كان النظام الإيراني عاجزاً عن جعل إيران عظيمة من جديد، فلماذا لا يكون هناك تغيير نظام؟".
وفضلاً عن الخطاب العسكري والسياسي، لم يغفل ترامب عن البُعد الاقتصادي، حيث ناشد عبر منصته وزارة الطاقة الأميركية بأن "تحفر، وتحفر، وتحفر"، لزيادة الإنتاج النفطي، رغم أن هذه المهمة لا تندرج ضمن صلاحيات الوزارة، في محاولة لتخفيف المخاوف من ارتفاع أسعار النفط وتأثيرها السياسي والاقتصادي، خاصة مع التأثير المباشر على الأسواق العالمية والاقتصاد الأميركي.
"تروث سوشال" منصة ترامب للحشد والتضليل
وفقاً لموقع وايرد المتخصص، فإنّ "تروث سوشال" بدأت تعاني من انقطاعات في الخدمة على مستوى العالم في غضون دقائق من نشر دونالد ترامب تفاصيل الضربة العسكرية الأميركية على إيران. هذا وتشير الإحصائيات إلى أن ترامب ينشر عبر "تروث سوشال" من 15 إلى 29 منشوراً يومياً، مع تسجيل ذروة استثنائية وصلت إلى 138 منشوراً في يوم واحد. وأثناء الفترة من مارس/آذار إلى سبتمبر/أيلول 2024، شارك أكثر من 330 منشوراً تحمل محتوى مثيراً للجدل ونظريات مؤامرة. العام الماضي مثلاً، شارك ترامب على نطاق واسع في نشر الاتهامات الكاذبة لمهاجرين هايتيين في ولاية أوهايو بسرقة حيوانات أليفة لأكلها، ما أثار جدلاً ألقى بظلاله على الحملة الانتخابية لفترة طويلة. ونتيجة للاتهامات، أصبح المهاجرون الهايتيون عرضة للتهديدات في هذه الولاية الواقعة شمال شرقي البلاد. وأشار جاريد هولت من "معهد الحوار الاستراتيجي" حينها إلى أن "منشوراته تشجع وتطبّع وتنشر الأيديولوجيات المتطرفة"، وعبّر عن خشيته من أن يحمس ذلك "الأطراف الأكثر تطرفاً في الحركة المحافظة الحديثة". هذا الكم الهائل من المحتوى يعكس استراتيجية واضحة لاستخدام المنصة أداة نشر مكثفة ومستقلة. "تروث سوشال" التي استقطبت في بداياتها جمهوراً محدوداً مقارنة بمنصات مثل "إكس" (تويتر سابقاً) و"فيسبوك"، أثبتت قدرتها على التأثير داخل أوساط مؤيدي ترامب، إذ يعاد نشر محتوياتها عبر قنوات إعلامية يمينية ومؤثرين رقميين، مما يضاعف تأثيرها في الخطاب السياسي والمجتمع الأميركي المحافظ.
