
منذ لحظة سقوط النظام السوري السابق، تُطرح أسئلة جوهرية بشأن شكل النظام الجديد الذي يمكن بناؤه، والدور الذي يفترض أن تلعبه المؤسّسات، خصوصاً الإعلام، في إعادة تشكيل الوعي العام للسوريين، غير أن أحد أخطر التحديات في هذه المرحلة المفصلية احتمال استمرار المشهد الإعلامي على النمط القديم، أي بوجود خطابٍ واحدٍ ومؤسّسات ناطقةٍ بلون سياسي أو فكري واحد، تحت مسمّى “الإعلام الوطني” أو " الإعلام الرسمي".
غياب الإعلام الخاص والمستقل في هذه اللحظة لا يعني فقط نقصاً في المحتوى أو تراجعاً في جودة التغطية، وغياب التنافسية، بل يُعتبر مؤشّراً مقلقاً على احتمال عودة هيمنة الصوت الواحد، وإن ارتدى ثوباً مختلفاً، فالإعلام أحادي اللون والمحتوى في دولة ما هو أحد وجوه الأنظمة المستبدّة، مهما كان الموضع الذي يقف فيه، والشعار الذي يرفعه.
الإعلام من جهة وظيفية ليس مجرّد شاشة تلفزيونية حكومية وحيدة في الميدان السوري، تنقل الأخبار وتعرض برامج سياسية ومنوّعة عبر استخدام تقنيات حديثة، بل يجب أن يكون مساحة للنقاش العام، وآلية رقابة، ومنصّة لمساءلة السلطة. وإذا استُبعدت هذه الوظيفة الحيوية عبر خطاب رسمي أو موجه يحتكر الحقيقة، فإن ذلك يؤدّي بالضرورة إلى تغييب التعدّدية، وتشويه صورة الواقع، وترسيخ النمط القديم الذي لطالما استخدم الإعلام أداة لتثبيت السلطة لا لخدمة الناس.
لا يمكن أن تُبنى سورية الجديدة على أنقاض إعلام اللون الواحد، فالمجتمع السوري متعدّد بطبيعته، ونجاح أي مشروع وطني يتطلب إعلاماً يعكس هذا التعدّد، لا يُقصي الأصوات المخالفة، ولا يصنفها تهديداً. الإعلام الخاص المستقل، عندما يُمنح المساحة القانونية والدعم الفني والمهني، يصبح أداة ضرورية في بناء الثقة، وإيجاد بيئة رقابة شعبية تعزّز الشفافية. والتنوع الثقافي والاجتماعي والإثني والديني في المجتمع السوري يتطلب، بالضرورة، تنوّعاً وتعدّداً في الأصوات الإعلامية، وفي المنابر والمنصات والمؤسسات.
المؤسسات الإعلامية الرسمية في سورية، حتى لو نُزعت عنها صبغة النظام السابق، تواجه اليوم أزمة عميقة، أبرز مظاهرها الاكتفاء بالصوت الداخلي، وتغليب الموقف على نقص الكفاءة، وغياب الثقافة المهنية، وتراكمات العقود الماضية من الدعاية والانغلاق. ولا يمكن لهذا الواقع أن يُعالج فقط عبر “إعادة هيكلة” داخلية، بل من خلال وجود بيئة تنافسية مفتوحة تدفع باتجاه التطوير الحقيقي.
الإعلام الخاص لا يعني، بالضرورة، إعلاماً معارضاً، بل إعلاماً متحرّراً من التوجيه، وقادراً على طرح الأسئلة الصعبة. غيابه يعني ببساطة غياب الرقابة، وغياب الرقابة يعني استمرار الإفلات من المحاسبة. وهكذا ندخل في دائرةٍ يُعاد فيها إنتاج الفساد والاستبداد بأسماء وأشكال جديدة. ولا بد من التأكيد أن تطوير هذا القطاع يتطلب دعماً تقنياً وتدريبياً واسعاً، إذ لم تُتح لغالبية العاملين في المجال الإعلامي في القطاع الحكومي، القدامى منهم ومن دخلوا فيه حديثاً، الفرصة لتلقّي تدريب مهني حقيقي بسبب البيئة التي كانت سائدة. لذلك، يجب أن تتضمّن أي استراتيجية للنهوض بالإعلام اليوم برامج تدريبية مستمرّة، وتعاوناً مع مؤسّسات إعلامية إقليمية ودولية، إضافة إلى الاستثمار في التقنيات والبنية التحتية.
تستحقّ سورية بعد النظام إعلاماً يعكس طموحات شعبها، لا يعيد إنتاج خيباته. والمطلوب اليوم ليس مجرّد تغيير الشعارات، بل إعادة النظر في منطق الإعلام نفسه: هل هو أداة لبناء وعي حر، أم مجرّد منصّة جديدة للسلطة بصوت واحد؟
وهل يمكن بناء بلد ومجتمع مدمّرين من دون نقاش واسع وصريح بين كل بنى المجتمع؟ وهل من ساحة أفضل من الإعلام لخوض هذا النقاش؟

أخبار ذات صلة.

