
الزيتونة المباركة شجرة الصراع السوري الجديد.
لا تُزرَع كما تُزرَع بقية الأشجار، بل تُغرس بالوجدان كما تُغرس القيم، وتُمنح ثمراتها اسماً كما يفعل الآباء بالأبناء: الصوراني، الدعيبلي، الخضيري، الدان، القيسي، الجلط، محزم أبو سطل… كل هذه ليست مجرّد أصناف، بل أنساب ضاربة في القدم. لكل نوع طعمه، وتاريخه، وقوامه الخاص، وذكراه المرمية للريح. فالزيتونة في الوعي السوري أكثر من شجرة: هي أصل الأنواع. شجرة لا تُزرع لك فقط، بل لنسلك من بعدك لتباركه بعد كل صلاة.
لهذا، بدا، بعد انتهاء فجيعتنا، أن إعادة تأهيل بساتين الزيتون دليلٌ على "عودة الدولة والحياة"، إذ لطالما رُبطت المناطق بمحصولاتها، فحضرت الشجرة الجليلة عبر مدنٍ وبلداتٍ امتدت شمالاً وجنوباً، من جبل سمعان وأعزاز، وكفرنبل إلى ازرع والصنمين، أما غرب البلاد فسكب شلالات زيته من منحدرات صلنفة والقرداحة. ناهيك عن حمص، في تلدو والحواش، حتى الزبداني ويبرود في ريف دمشق بأشجارها المعمّرة.
أما عن الحكاية، فقد حملتها مناطقنا، محوّلة كلّ ما فيها إلى رمز، فلم يكن الزيتون فيها مجرّد محصول يُقطف، يُعصر، ويُخمّر، بل رمزٌ لصمودٍ عنيد. وفيما كانت الطائرات تجرؤ على محو الحقول وإشعال الحرائق، بقيت شجرةٌ وحيدةٌ صامدة في العراء، كأنّها ترفع لافتة حرية: "نحن هنا، ما زلنا نثمر".
كما لو أن تلك الشجرة بمحصولها الرباني المبارك تخوض حروبها عنا، أيقنت، بعدما أطعمت من جسدها وسقت من نسغها سلالات من بشر، أنها لم تعد مجرّد شجرة، بل صارت مكاناً للاصطراع، وجبهة رمزية مفتوحة في قلب "سورية الجديدة".
ما بين زيتون الشمال وزيتون الغرب
ما زال محصول سورية من الزيت والزيتون يثير جشع المستغلين، لكن الخطابات الرسمية، على اختلاف مصادرها، لا تزال تستدعي شجرة الزيت المبارك رمزاً للثبات والبقاء. لكن رمزيةً كهذه تبدو مشوّهة، تُفرغ من مضمونها حين تُفرض على قرىً غُيّرت ديموغرافيتها، بالنزوح والتهجير حيناً وبالحرائق والحصار حيناً آخر، أو إعادة هيكلة غير بريئة لمشاريع إعادة إعمار، لا تلقِ أدنى اهتمام للذاكرة أو التاريخ.
عن نسغ الحياة، عن عروقنا التي جفّت.
قبل سنوات فجيعتنا الأربع عشرة، كانت سورية من كبار مصدّري الزيت، وكانت شجرة الزيتون رافعةً اقتصادية تصلنا بأقطاب العالم المنتج للزيت المبارك. أما اليوم، بعد انقسام بين شمال وغرب، فقد صار الزيتون "عملةَ بقاء". ليس لأن المعاصر بحاجةٍ إلى إعادة تأهيل فقط، والأسواق انكمشت بسبب التهريب، لكن بسبب اجتياح الفساد البساتين الممتدّة على جغرافيا سورية بتعدّديتها، حيث حوّلت المليشيات تلك البساتين إلى غنائم، وأرض محروقة، بحيث لم تترك شيئاً إلا مسحته بالدم.
يعلم الكل أن زراعة الزيتون اليوم ليست بريئة. إنها، في أحيانٍ كثيرة، بيانٌ سياسي: من يزرع؟ ولمن؟ وفي أي سياق؟ وتحت أي راية؟ حتى فعل الزراعة البسيط يقبع في قلب الصراع.
في القرآن الكريم، وُصفت الشجرة الأولى بأنها "زيتونة لا شرقية ولا غربية"، وكأنها نبوءةٌ بأن تبقى هذه الشجرة متعامدة مع كل اتجاه للشمس، بعيدة عن تقسيم الضوء بين شرق وغرب. فهل سينجو زيتوننا بكل جهاته؟ الجواب مقلق، محيّر، فالصراع لم يعد بالرصاص فقط، ففلاحُ تلك الأرض يمسك بشجرته المباركة، يحفر لها وطناً للسلام في بلدٍ يتوق أن يحلّ عليه السلام. وهل سننجو بفضل بركات أشجارنا تلك؟ الجواب عند قطرات الزيت تُشعل سراج الضمير وتملأه نوراً من "كوكب دُرّي يوقد من شجرة مباركة، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار".
