
يبدو أن أولى الخطوات، نحو تشكيل مجلس شعب جديد في سورية، قد بدأت مع إصدار الرئيس أحمد الشرع المرسوم الرئاسي رقم 66 لعام 2025، القاضي بتشكيل "اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب"، وهي مكلفة بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، تتولى انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب، الذي حدد المرسوم عدد أعضائه بـ150 عضواً من فئتي "الأعيان والمثقفين"، وبما يتماشى مع "الشروط التي تقرّها اللجنة العليا للانتخابات"، فيما سيُعين الرئيس الشرع ثلث أعضاء المجلس، بحسب الإعلان الدستوري المؤقت. وبالتالي، يأمل غالبية السوريين أن يمثلهم المجلس المنتظر تشكيله بمختلف مشاربهم ومنابتهم، من خلال ضم جميع أطياف المجتمع السوري من دون تمييز، وبما يعيد إحياء الحياة البرلمانية، التي لا تزال تسكن ذاكرتهم، وعايشوها قبل أن يقضي عليها انقلاب حزب البعث عام 1963، ونظام الأسد من بعده.
يوضح تشكيل اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب أن الإدارة السورية الجديدة تريد أن تضفي طابعاً مؤسّساتياً على عملية انتخاب أعضائه، عبر تعيين لجنة تضم 11 شخصاً (بينهم امرأتان)، بعضهم كان ينتمي إلى تشكيلات المعارضة السياسية السابقة، وبالتالي بات المطلوب من اللجنة أن تثبت قدرتها في الإشراف على تشكيل هيئات ناخبة تراعي التنوع السياسي والفكري والديني والقومي في سورية، وعليها وضع معايير تأخذ في الاعتبار الكفاءة وعدم التورّط في الجرائم أو الفساد أو انتهاكات حقوق انسان.
لا يطلب السوريون الكثير، ولا المستحيل، بل يريدون جسماً تمثيلياً يمكنه سنّ التشريعات والقوانين التي تمسّ أمور معيشتهم وحياتهم، وبما يعّبر عن همومهم وأصواتهم، ويرتقي إلى مصافّ مؤسّسة مهمة من مؤسّسات المجتمع، يمارسون فيها حريتهم في المشاركة في الحياة السياسية والتعددية، حتى يتمّ القطع بشكل جذري مع المجالس الصورية السابقة التي شكّلها نظام الأسد البائد بنسختيْه الأب والابن، وكانت بعيدة عن تمثيل السوريين، حيث كانت أقرب إلى مجالس تصفيق، غايتها التصديق على تشريعات النظام وقراراته، ولم تكن تمثل الشعب بقدر ما كانت أداة وظيفيّة وطيّعة في خدمة النظام.
نصّت تصريحات مسؤولي السلطة الجديدة في سورية على تشكيل مجلس تشريعي، وليس برلماناً
تظهر تجارب دول عديدة أن مجلس الشعب، أو بالأحرى البرلمان، بوصفه جسماً نيابياً، يُشكل عبر عملية انتخابية، تعكس اختيار مواطني الدولة مجموعة من النواب الذين يمثلونهم، وينوبون عنهم كي يعبّروا عن آرائهم، بعد أن فوّضوهم وأعطوهم أصواتهم، لكن بعض الدول تستعيض عن ذلك بطرقٍ أخرى، حيث تلجأ إلى تشكيل مجالس استشارية تضم مجموعة من القيادات الاجتماعية والرموز والشخصيات العامة، الغرض منها التشاور في قضايا الحكم والدولة، لكن في حالات أخرى، خصوصاً في الأنظمة الاستبدادية يجري تشكيل مجالس لا تعكس إرادة المواطنين، ولا تعبر عن تطلعاتهم.
لقد نصّت تصريحات مسؤولي السلطة الجديدة في سورية على تشكيل مجلس تشريعي، وليس برلماناً، ما يعني أن الخيار وقع سلفاً على أنه لن يكون منتخباً من الشعب، بل معيناً من السلطة. وعليه، أقرّ الإعلان الدستوري المؤقت في المادة 24 تشكيل مجلس شعب، بحيث يشكل رئيس الجمهورية لجنة عليا لاختيار أعضائه، فيما "تقوم اللجنة العليا بالإشراف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، وتقوم تلك الهيئات بانتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب". أما الثلث المتبقي من الأعضاء مُنح للرئيس حق تعيينه "لضمان التمثيل العادل والكفاءة"، الأمر الذي يضعف السلطة التشريعية أمام السلطة التنفيذية، نتيجة تدخّل الأخيرة المباشر في تركيبة مجلس الشعب. كما أن الإعلان الدستوري لم يحدّد كيفية أو طريقة تشكيل اللجنة العليا، ما يثير هواجس لدى السوريين من أنها ستكون مشابهة للجنة التي عينها الرئيس، وأشرفت على اختيار أعضاء مؤتمر الحوار الوطني، وتلك التي صاغت الإعلان الدستوري وسواه من خطواتٍ أثارت جدلاً واسعاً بين معظم السوريين، واعتبرها بعضهم تكريساً لنهج الانفراد بالسلطة، واستبعاد معظم القوى السياسية والمكوّنات الاجتماعية من المشاركة فيها.
إذاً، ينتاب معظم السوريين المهتمين بالشأن العام قلق من الصلاحيات الكثيرة الممنوحة للرئيس. ويكمن مصدر القلق في هذا المجال من طريقة تشكيل مجلس الشعب المنتظر، خصوصاً أن اللجنة العليا المختارة ستلعب دوراً كبيراً في تحديد تشكيلة مجلس الشعب، إضافة إلى أن الإعلان الدستوري لم يضع آلية واضحة لانتخاب ثلثي أعضاء المجلس، الأمر الذي يفتح الباب أمام التدخلات السياسية في تشكيل المجلس، عبر منح الرئيس تأثيراً كبيراً على قراراته، سواء عبر تعيين أعضائه، أو التأثير في لجنة الاختيار، التي يعيّن الرئيس أعضاءها، كي تختار بدورها هيئات فرعية منتخبة تتولى مهمة انتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب. كما حرم الإعلان الدستوري مجلس الشعب من حقّه في الرقابة على أداء السلطة التنفيذية، وفي مساءلة الوزراء، ومنح الثقة للحكومة، بينما منح الرئيس الحق في تعيين الوزراء وإقالتهم. إضافة إلى أن المادة 39 من الإعلان الدستوري أعطت الرئيس حقّ الاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس الشعب، ما يعني منع إصدار أي قانون لا يوافق عليه. لكن اللافت هو أن الإعلان الدستوري حدّد مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، فيما حدّدت المادة 26 منه مدّة ولاية مجلس الشعب بـ30 شهراً قابلة للتجديد، الأمر الذي يفتح المجال أمام تشكيل مجلس الشعب مرّة كل سنتين ونصف السنة.
يتذرع المدافعون عن الإعلان الدستوري، والخطوات التي قامت بها السلطة الجديدة، بأن المرحلة الانتقالية تتطلب تركيز السلطة بيد الرئيس، لكن التذرّع بحساسية المرحلة الانتقالية غير مقنع، من أجل تبرير مركز السلطة، وتجريد البرلمان من صلاحيات مهمة، فالتاريخ السوري يزخر بالحياة البرلمانية، إذ في المرحلة الانتقالية الصعبة جداً التي نفضت سورية فيها عن كاهلها الحقبة العثمانية، ولدت تجربة برلمانية رائدة في الحياة السياسية السورية، تلك التي خاضها السوريون بجدارة في عام 1919، حين تشكّل المؤتمر السوري العام في دمشق، بمشاركة 85 نائباً، واستمر المؤتمر حتى إعلانه استقلال سورية في 8 مارس/ آذار 1920.
لم يكن في ذلك الوقت أي قانون انتخابي، لذلك وجهت الدعوة إلى السوريين لانتخاب أعضاء المؤتمر، بالاعتماد على قانون الانتخاب (الملّي) العثماني. ودشّن السوريون في تلك المرحلة أول تجربة برلمانية فريدة من نوعها في البلدان العربية ومنطقة الشرق الأوسط. لكن تلك التجربة جرى تعطيلها من طرف قوى الانتداب الفرنسي، الذي اضطر في عام 1923 إلى قبول تشكيل المجلس التمثيلي والنيابي، برئاسة بديع العظم، استجابة لمطالب السوريين. واستمرّ السوريون في ممارسة الحياة النيابية على الرغم من ضغوط وممارسات الانتداب الفرنسي، حيث كان للمجلسين النيابيين المنتخبين عامي 1936 و1943 برئاسة فارس الخوري دور أساسي في اتخاذ قرارات صبّت في طريق الاستقلال، الأمر الذي يفسر مهاجمة قوات الاحتلال الفرنسي المجلس النيابي في 29 مايو/ أيار عام 1943.
ليس طريق اللجنة العليا للانتخابات معبّداً وسهلاً، بل هناك إشكاليات تتطلب وضع أسس لحلها
لعب البرلمان دوراً مهماً بعد جلاء الاستعمار الفرنسي عام 1946، حيث جرت أول انتخابات برلمانية بعد عام من الاستقلال السوري، ثم جاءت فترة الانقلابات التي عطلت الحياة البرلمانية حتى عام 1954، الذي أعلن عودة الحياة البرلمانية. وشهدت سورية ما بين 1954 و1958 فترة سميت "ربيع الديمقراطية"، بالنظر إلى ما سادها من تعددية حزبية وحياة ديمقراطية، عاشتها في تلك الفترة من تاريخها إلى أن قامت الوحدة مع مصر عام 1958، وجرى خلالها دمج البرلمان السوري بالبرلمان المصري، ليشكلا "مجلس الأمة". وبعد فشل الوحدة عام 1961، عاد مجلس النواب السوري إلى عهده ما قبل الوحدة، لكن انقلاب حزب البعث في الثامن من مارس/ آذار 1963، أقدم على حل البرلمان، وتعطيل الدستور، وجرى تشكيل ما سمي "مجلس قيادة الثورة"، الذي تولى السلطة التشريعية، بدلاً من البرلمان المنتخب، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى انقلاب 1970، حيث وجّه نظام الأسد الأب دباباته لمحاصرة البرلمان، ثم عيّن أعضاء مؤسسة تابعة له أطلق عليها اسم "مجلس الشعب"، لتدخل البلاد في حقبة مظلمة من الاستبداد والديكتاتورية، تحوّل فيها مجلس الشعب إلى مؤسّسة تابعة للنظام، يقتصر دورها الأساسي في تقديم صورة تجميلية للنظام في الخارج، فيما كان دورها الحقيقي في الداخل ينحصر في كونها أداة بيده، وظيفتها توزيع المحاصصات والمكافآت داخل شرائح مختلفة من الموالين له. ومنذ ذلك الوقت، فقد مجلس الشعب ما تبقى له من تأثير في الحياة السياسية السورية، فيما حرص نظام الأسد بنسختيه، الأب والابن، على المجلس بصورته الشكلية، من أجل التمسّك بأحد مظاهر نظام يمتلك سلطة تشريعية، أسوة بباقي الدول، لكن تركيبته كانت تعكس الصورة التسلطية التي فرضها بالقوة على عموم السوريين.
ليس طريق اللجنة العليا للانتخابات معبّداً وسهلاً، بل هناك إشكاليات تتطلب وضع أسس لحلها، خصوصاً أنها ستختار اللجان الناخبة من "الأعيان والمثقفين"، وفق ما نص عليه المرسوم الجمهوري. وبالتالي، يكمن التحدي في كيفية تحديد من هم الأعيان والمثقفون، وفي الأسس التي ستضعها اللجنة لتحديدهم. ومع ذلك، يريد السوريون مجلساً يمثل إرادتهم الشعبية، كي يساهموا في رسم ملامح العملية الانتقالية، في ظروف تواجه فيها بلادهم تحدّيات صعبة في الداخل والخارج، ولعل تجميد الحياة السياسية يزيد من حجم الصعوبات التي تواجهها، خصوصاً أن الحياة البرلمانية لا يمكنها التأثير في العملية الانتقالية من دون تعدّدية سياسية، بوصفها مفتاح الحوار بين السوريين، وتشكل فرصة لمشاركتهم الحقيقية في صنع حاضر بلادهم ومستقبلها، وتدفعهم إلى عدم الوقوف على هامش المشهد السياسي.
