دستور سورية المرتقب... حدثٌ أم عقلٌ جمعي؟
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

ليست الدساتير مجرّد إطار مفاهيمي أو حدثاً من الأحداث وحسب، بقدر ما هي عقل جمعي، وتجسيد لروح الأمم، وثقافاتها، وتاريخها، وتجاربها المشتركة، قبل صهرها في بوتقة الوعاء الدستوري، الذي يحدد نوع النظام السياسي وهوية الدولة، دينية كانت أو مدنية أو علمانية، وشكلها بسيطة كانت أو مركبة.
وتقدمةً للبحث في موضوع الدستور السوري المأمول، نعرض سريعاً لكيفيات وآليات ولادة الدساتير، وأنظمتها السياسية في نماذجها الأربعة عالمياً، سواء منها الرئاسي الذي وُلد في الولايات المتحدة، أو البرلماني الذي ولد في بريطانيا، أو شبه الرئاسي الذي ولد في فرنسا، أو النظام المجلسي الذي تطبقه سويسرا نموذجاً وحيداً في العالم.

وُلد النظام الرئاسي في الولايات المتحدة من رحم خصوصية المجتمع الأميركي، الذي تشكّل من مجموعات المهاجرين والعمّال لدى أصحاب الشركات من الأثرياء؛ الذين يمتلكون القدرة على حمايتهم، وتأمين رغبتهم في كسب الرزق والأمن. وهي الفكرة التي أسّست في مراحل لاحقة لفكرة النظام الرئاسي الذي يعطي صلاحيات واسعة للرئيس، كونه منتخباً من الشعب مباشرة. ومع التحوّلات التي مرّت بها التجربة الأميركية، منذ موجات المهاجرين الإسبان والفرنسيين والبريطانيين والهولنديين، الذين استوطنوا في ولايات خاصة بهم، الأمر الذي ترك لديهم نوعاً من النزوع إلى الخصوصية والاستقلال المحلي، والأخذ بطبيعة كل شعبٍ في كل ولاية، وهي الفكرة التي أسّست للفيدرالية الأميركية، في حالة من تقاسم الصلاحيات السياسية بين رئيس منتخب من الشعب، ويمتلك صلاحيات فيدرالية تتعلق بالمصلحة العليا؛ يقابله استقلال محلي، إذ لكل ولاية دستورها الخاص بها، في إطار عملية مؤطّرة بالدستور الذي يقوم على الفصل التام بين السلطات نظرياً، لكنه من الناحية العملية وضع  نظاماً صارماً من الكوابح والتوازنات، حال دون تغول سلطة على أخرى، الأمر الذي أفرز نموذجاً ديمقراطياً فريداً من نوعه في العالم.

تحتاج سورية اليوم إلى دستور يُنقذها من الأوضاع القلقة التي تعيشها، خصوصاً أن العالم بأسره ينظر إلى حكومتها المؤقتة

النظام البرلماني
تعود نشأة النظام البرلماني إلى بريطانيا بسبب جملة من التفاعلات المجتمعية، التي تصاعدت مع تمرّد البارونات والإقطاعيين على الملك جون لاكلاند (1166- 1216) المعروف باستبداده وتسلّطه، وزيادته الضرائب، وحروبه الخاسرة، فتصاعدت خلال حكمه الاحتجاجات الشعبية التي قادها النبلاء، مطالبين الملك بالتوقيع على مجموعة من المطالب عُرفت بـ"الوثيقة العظمى" أو "الماغنا كارتا" 1215، التي نصّت على تقليص سلطات الملك المطلقة. وبسبب رفض الملك، اندلعت الحرب الأهلية الإنكليزية 1215 - 1217 فاضطر الملك إلى توقيعها مجبراً. مهّدت "الماغناكارتا" لأول قانون أسس لفكرة تقليص صلاحيات الحاكم من الشعب؛ ورويداً رويداً أسّست هذه الوثيقة لفكرة النظام البرلماني الذي يعطي البرلمان صلاحيات على حساب الرئيس في إطار مبدأ فصل السلطات.  بالمقابل فشل النظام البرلماني في الكثير من دول الجنوب، بسبب اختلاف البنى المجتمعية، وغياب الوعي الديمقراطي، والتطبيق المشوّه للديمقراطية، والخلل في تطبيق مبدأ فصل السلطات، أو الاعتماد على المحاصصة الطائفية والإثنية (على سبيل المثال، النموذجان اللبناني والعراقي).


النظام شبه الرئاسي والنموذج الفرنسي
وُلد النظام شبه الرئاسي، أو ما يسمّى المختلط في فرنسا؛ التي ظلت حتى سنة 1958 تتبع نظاماً برلمانياً أبّان الجمهورية الرابعة؛ وبسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية، وحالة عدم الاستقرار السياسي، وانتصار الثورة الجزائرية، وفشل النظام البرلماني في إنهاء الاستعمار. أدت كل هذه الهزات إلى ضرورة التفكير بتقوية موقع الرئيس من خلال منحه سلطات إضافية، بانتخابه من الشعب وليس من البرلمان، حتى لا يكون مقيّداً أو مسؤولاً بشكل كامل أمام البرلمان. لهذا جاء النظام شبه الرئاسي من حاجة (وطبيعة) المجتمع الفرنسي الذي احتاج حينها لنظام مختلط أو شبه رئاسي، بحيث يأخذ من النظام الرئاسي مؤسّسة الرئاسة بانتخاب رئيس البلاد من الشعب مباشرة، وفي الوقت نفسه، يأخذ من النظام البرلماني انبثاق الحكومة من البرلمان، في إطار علاقة تشاركية بين الرئيس ورئيس الحكومة.

النظام المجلسي السويسري
يطبق النظام المجلسي اليوم في سويسرا فقط، وقد لاقى فيها نجاحاً باهراً، بسبب طبيعة المجتمع السويسري وتاريخه وثقافته.
نشأت سويسرا عام 1291، بعد أن وقعت ثلاثة كانتونات على ميثاق دفاع مشترك؛ بحيث يحكم كل كانتون نفسه بنفسه من دون حكومة مركزية مع التزام الحياد والابتعاد عن الحروب؛ فتأسّس على أثر ذلك نوعٌ من الكونفيدرالية بين مجموعات سكانية تختلف باللغة والهوية. لذلك لا توجد في سويسرا لغة رسمية واحدة، بل أربع لغات، ولا ثقافة واحدة بل ثقافات متنوّعة، وكل ما يجمعهم روح التعاون والتعايش والمصلحة المتبادلة والتجارب المشتركة تاريخياً.

سبق الدستور السوري الأول عام 1920 الدستور التركي في النصّ على مدنية الدولة وهويتها العربية

بعد اندلاع الحرب الأهلية، اتجهت الكانتونات السويسرية لكتابة دستور 1848 الذي تمخض عنه النظام الفيدرالي، الذي تقوده هيئة تشريعية تتمثل فيها الكانتونات وبيدها جميع السلطات، من خلال انتخاب سبعة حكماء يعملون كلجنة تنفيذية مرتبطة بالهيئة التشريعية، ويسمّون منهم رئيساً كل عام، وهي الفكرة التي ولد على أثرها النظام المجلسي، أو حكم الجمعية الاتحادية، نموذجاً وحيداً في العالم، حيث تجتمع جميع السلطات بيد السلطة التشريعية. وبالرغم من نجاح النظام المجلسي في سويسرا فإنه فشل في دولٍ عديدة جرّبته، بسبب اختلاف الطبيعية المجتمعية، وغياب الوعي السياسي، وحب الاستئثار بالسلطة، الذي يدفع باللجنة التنفيذية المخولة من الهيئة التشريعية للاستئثار بالسلطة، فيتحول إلى نظام استبدادي.

الدساتير السورية 
تحتاج سورية اليوم إلى دستور يُنقذها من الأوضاع القلقة التي تعيشها، خصوصاً أن العالم بأسره ينتظر من حكومتها المؤقتة تجاوز تحدّياتها الداخلية قبل الانفتاح أو الاعتراف بها خارجياً، ولعل دستورها المنتظر وحده القادر على إنجاز هذه المهمّة، من خلال العمل على دولة طبيعية، يضع محدّداتها دستور يضبط عمل الدولة، ويعزّز استقرارها من جميع الجوانب، كمهمة يتوافق عليها جميع السوريين، انطلاقاً مما يجمعهم تاريخياً وثقافياً، كأهم المحدّدات الرئيسية لكتابة دستور سورية المنتظر.
... يمكن القول إن أولى إرهاصات الحكم المدني كانت في بلاد الشام، وتحديداً من دمشق، فمع تولّي معاوية بن أبي سفيان الحكم في دمشق (661- 680) تبلورت أولى آليات تحديد طبيعة الدولة (مدنية أو دينية). ففي وقتٍ كانت فيه المدينة المنورة عاصمة "الخلافة الراشدة" دولة دينية تقوم على الشورى وحدودها الحجاز؛ سارت الدولة الأموية في دمشق ببناء الدولة المدنية بمرجعية إسلامية، اتساقاً مع أهدافها السياسية، ونزولاً عند طبيعة المجتمع في بلاد الشام التي كانت (وما زالت) تشكّل نموذجاً فريداً في العالم بتعدّدية الطوائف والمذاهب والإثنيات.
اشتغل معاوية على مأسسة عمل الدولة، فأبقى على المؤسّسات على الطريقة البيزنطية، وطوّر نظم إدارة الولايات والأموال العامة، وشجع الثقافة والآداب والفنون، وأنشأ نظام شرطة وجيش قوي، مستفيداً من حادثة مقتل الخليفة عثمان بن عفان الذي قُتل على يد مجموعة من المتمردين من دون وجود جيش منظّم يحميه، كما ألغى طريقة التقاضي المعمول بها خلال حكم الخلفاء الراشدين بالتقاضي أمام الخليفة، قائلاً "إن لنا زماناً غير زمانهم"، فاستحدث وظيفة القضاء، كما وضع آلية لمحاسبة القضاة والولاة على طريقة المراجعة القضائية، كآلية وضعت اللبنة الأولى لما يعرف اليوم "مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري" الذي يضطلع في الديمقراطيات المعاصرة بالدعاوى التي يرفعها الأفراد على الدولة وموظفيها.
لقد تميّزت الدولة الأموية في دمشق بالإبقاء على طبيعة مؤسّسات الدولة السريانية والبيزنطية، كما الإبقاء على الطابع المسيحي، الذي كانت تعتنقه غالبية القبائل العربية، كتغلب وبكر ومضر وإياد وغيرها، فتولى المسيحيون مناصب عالية منذ بداية عهد معاوية الذي عيّن، على سبيل المثال، وزيراً مسيحياً للمالية، ووالياً مسيحياً على حمص، ويذكر الطبري والمسعودي أن معاوية كان يسمّي سكان سورية "المستنير السمح"، حتى إن المسيحية تحولت إلى طابع اجتماعي، وتنوع مجتعمي ليس إلا، وهي الآليات نفسها التي سارت عليها الدولة الأموية في الأندلس، كما سارت عليها الدولة العباسية، ما ساعد في تقبل الإسلام ونشره من حدود الصين إلى جنوب فرنسا.
 بغضّ النظر عن الإصلاحات أو التنظيمات العثمانية بدءاً من عام 1839 التي تأثرت بضغوط داخلية قومية، وخارجية بسبب احتدام الصراعات السياسية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية، ما ترك حالة من التناقض داخل الدساتير العثمانية لدرجة استنسخت في بعض بنودها العلمنة الأوروبية، في وقتٍ أبقت فيه على "دين الدولة هو الإسلام"، وذلك حتى دستور 1928 الذي أزال هذه العبارة، وهي التناقضات التي تركت آثارها في دستور الجمهورية التركية وهويتها وسياستها، دولة ما زالت تتنازعها العلمانية الأوروبية، والتوجهات الإسلامية.
على خلاف ذلك، نلحظ  خصوصية الدساتير السورية المتعاقبة، التي أظهرت، منذ دستور 1920، قطعية تاريخية مع الماضي العثماني، سواء لجهة دينية الدولة أو علمانيتها الأوروبية، فقد سبق الدستور السوري الأول عام 1920 الدستور التركي في النصّ على مدنيّة الدولة وهويتها العربية، عندما تضمن صراحة في مادته الأولى "حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنيّة نيابية، عاصمتها دمشق الشام، ودين ملكها الإسلام"، وبذلك تجاوز الدستور السوري الأول فكرة دينية الدولة، فحصر ذلك بدين الملك مرجعية إسلامية، ومقدّماً في الوقت نفسه، على الطريقة الأموية، العروبة هوية للدولة السورية، في وقتٍ بقيت فيه الدساتير التركية تنص على عبارة "دين الدولة هو الإسلام"، حتى صدور الدستور التركي 1928 آنف الذكر.

بالرغم من معاييره العصرية، لم يكتب لدستور 1950 في سورية النجاح بسبب تبنّيه النظام البرلماني

المعايير الدولية والنزوع إلى الوحدة
تأكّدت تاريخية الهوية السورية ونزوع السوريين إلى الوحدة، مع بداية الاحتلال الفرنسي، الذي حاول تقسيم سورية تسهيلاً للسيطرة عليها، فشكل المحتل الاتحاد السوري الذي لا يضم لبنان، وجبل الدروز والعلويين. وأمام الاحتجاجات الشعبية التي أدّت إلى اندلاع الثورة السورية الكبرى، بدأت مرحلة جديدة قادتها النخب الوطنية، أفضت، في نهاية المطاف، إلى انعقاد الجمعية التأسيسية، التي تمخض عنها دستور 1930 الذي أعاد توحيد البلاد. وأسست الثقافة ذاتها لكتابة دستور 1950 ليكون أول دستور بمعايير دولية في إطار النظام البرلماني، الذي نص في الفصل الأول منه على اسم "الجمهورية السورية" وعطف عليها في المادة الأولى من الفصل نفسه بأن "سورية جمهورية عربية ديمقراطية نيابية ذات سيادة تامة"، ومؤكّداً في مادته الثانية على أن "السيادة للشعب".
بالرغم من معاييره العصرية، لم يكتب لدستور 1950 النجاح بسبب تبنّيه النظام البرلماني، وعدم أخذه بالظروف الموضوعية التي كانت تمر بها البلاد كمرحلة قلقة وغير مستقرّة ما بعد الاستقلال، وهي البيئة التي لا تتناسب وطبيعة النظام البرلماني، الذي يقلّص صلاحيات رئيس البلاد لصالح البرلمان، في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى رئيس قوي، وربما لو اختار المؤسّسون الأوائل نظاماً رئاسياً لما دخلت سورية في أتون صراعات سياسية وانقلابات عسكرية لم تتوقّف حتى انقلاب 1970، الذي أوصل حافظ الأسد إلى السلطة، وهي المرحلة التي استمرت 54 سنة من عسكرة الدولة والمجتمع، في غياب تام لأية ممارسة دستورية فعلية، قبل أن ينجح السوريون في 8 ديسمبر (2024) وبعد 14 عاماً من التضحيات بتأكيد ثقافتهم التاريخية، والشروع، من جديد، في محاولاتهم استرجاع دولتهم المدنية الديمقراطية التي يستحقونها. وها هم اليوم يحدوهم الأمل بصياغة دستور يتناسب وتاريخهم وثقافتهم وتجاربهم المشتركة، مدركين أن التاريخ ليس مجرّد واقعة حدثت في الماضي، بقدر ما هو معطى للحاضر، ومعنى وحدس للمستقبل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية