
كيف تعرف أنّ أحداً يعبث بعقل الجماهير؟
هناك أجوبة كثيرة لهذا السؤال، لكنّني أميل أكثر إلى هذا الجواب: حين يرتفع النقاش حول ما لا يُهم في موضوع يُهم.
وهذا ما يحصل كثيراً في الفضاء العام السوري هذه الأيام، إذ يعلو الصراخ حول طول لحية رجل، أو درجة حفّ شاربَيه، هجوماً ودفاعاً، فيما يُهمَل سببُ تداول صورته؛ حين عيّن مسؤولاً عن الاستثمارات العقارية، أو مسؤولاً أمنياً لمنطقة حساسة، أو رئيساً للجنة ستقرّر مصير ربع المجتمع لجيلَين.
ويمتلئ الفضاء بتعليقاتٍ بشأن معطف سيدة (أو لا معطفها)، فيما أصبحت بيد هذه السيدة صلاحية تعميم نظرتها الضيقة إلى مفهومَي الذكورة والأنوثة على مجتمع يقاتل منذ قرن لتقريب المفهومَين.
ويتركّز النقاش العام حول الجزء المكشوف من الفخذَين في أثناء السباحة، فيما يكاد النظام المصرفي المحلي ينكشف تماماً، ويفقد آخر ذرة ثقة.
ويثور الرأي العام حول ممثلة ظهرت في مقابلة تلفزيونية، فيما لا يعرف هذا الرأي العام نفسه ما مصير آبار النفط، ولا مستقبل السلم الأهلي، وينزعجُ لحذف فقرة من كتاب مدرسي، بينما لدينا 3800 مدرسة غير صالحة للاستخدام، ويهتمّ الرأي العام بملابس طبيبة، فيما هاجر 30 ألف طبيب، وبشرطيّ اسمه جورج، فيما هاجر ثلثا المسيحيين السوريين.
وقد ننشغل لأيام بتعيين مدير لمؤسّسة مياه في محافظة صغيرة، لأنه نشر قبل سنوات صورة في مكتبه، وخلف طاولته صورة لبشار الأسد، بينما تعيش سورية أسوأ عام مائي منذ عقود، ولا نعرف كيف سنشرب إلى نهاية الصيف.
وتشغلنا الرخص التي منحت لشركاتٍ مجهولةٍ تعمل في تعبئة المياه بعبوات بلاستيكية، بينما لا يعلم المهندسون شيئاً عن نصف الـ168 سداً الموزعة في سورية، ولا يستطيعون حتّى الوصول إليها لدراستها، لأن بعضها محاط بالألغام، من بقايا تنظيم داعش.
في الأيام الأخيرة، اتّسع النقاش حول مشروع استثمار جبل قاسيون، وخضع النقاش للتقنية ذاتها، فتركَّز على الحجرة التي تسند "الكوفراج"، وارتفاع السقف، وسماكة الجدار الاستنادي، وزاوية دوران حلقة الزهور، وارتفاع ضغط النافورة، بينما لم يسأل أحد عن الصيغة القانونية التي جرى وفقها المشروع بكامله، وهل هو تعهّد لصالح المحافظة؟ أو استثمار لصالح شركة ما؟ أو هو مزيج منهما؟ وكم عمره؟ وما النّسب التي جرى الاتفاق على تقاسمها؟ ومَن درَس المشروع معمارياً وإنشائياً واستثمارياً؟ وقبل ذلك كلّه: مَن كتب حكاية المشروع؟ وهل يعرف أن هذا الجبل هو أقدم حكاية عرفتها البشرية؟
يتراشق الناس الشتائم المقذعة حول أيّ تفصيل غير مهم، فيما تحيط بنا التحدّيات الكبرى، والقضايا الهامة، فقد ترك لنا نظام الأسد بلداً خَرِباً، ومؤسّسات سوّيت بالأرض، ومدناً مدمرة، ومجتمعاً متشظياً.
وهرب بطريقة، منحتنا الفرصة لنعيد بناء بلدنا كما نستحقّ ونريد، وبدلاً من أن نستغل اللحظة التاريخية النادرة، استسلمنا لمنابر تريد العبث بنا، لخبثٍ ولؤم أو لجهلٍ وسذاجة، وانسقنا خلفها منشغلين عن آلاف الأسئلة التي علينا طرحها على أنفسنا، وتبادل النقاش حولها، وسماع كل الآراء الممكنة حيالها.
من بين كل المخاطر والتحدّيات التي تواجهنا بوصفنا بلداً خارجاً من الحرب، أظن أشدها وقعاً، وأعمقها تأثيراً، سيكون انشغالنا أو إشغالنا عن قضايانا الوطنية الحقيقية والضرورية، وجرّنا كالمنوّمين إلى زاوية القضايا الصغيرة والتافهة، التي كان اسمُها سفاسفَ، وصار اسمها التّرند.
