كورت ديبوف وإعادة تعريف الشرق الأوسط
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

ما الذي يجعل الشرق الأوسط بتاريخه الممتد إلى أقدم الحضارات المؤسسة على الأرض، ودياناتها وجغرافياتها الشاسعة عبر عدد من القارات، بشعوبها العريقة ومدنها التي كانت يوماً ما مركزاً ثقافياً للفكر والعلم والفلسفة والآداب، يبدو كأنه يتحدّى التبسيط والفهم السطحي الذي نشاهده ونسمع به اليوم في الإعلام الغربي تحديداً؟ لعل هذا التساؤل هو دافع الباحث والكاتب البلجيكي كورت ديبوف إلى أن يُعنونَ كتابه الجديد بجملة بسيطة ومباشرة: "ما يجب أن تعرفه لفهم الشرق الأوسط". 

عرف القارئ العربي اسم الخبير البلجيكي في شؤون الشرق الأوسط كورت ديبوف، من كتابه "القَبْلَنَة.. هل الحرب على الأبواب" (منشورات المتوسط، ميلانو، ترجمة: عماد الأحمد، 2021) الذي ناقش فيه العديد من القضايا السياسية الدولية، وعلى رأسها الصراع الأوروبي الروسي، ونهاية العولمة، وأزمات الهوية، وصولاً إلى الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والصراع العربي الإسرائيلي، ومستقبل القضية الفلسطينية، وثورات الربيع العربي.

وعلى الرغم من بساطة عنوان كتابه الأحدث، فإنه يقدّم خريطة حقيقية للقارئ الأوروبي والعالمي، تساعده على اختراق التعقيدات التي تلف المنطقة، خاصة أن الكتاب يأتي استكمالاً لمسار طويل من الاشتباك المباشر الذي خاضه ديبوف مع قضايا المنطقة العربية تحديداً، سواء من موقعه باحثاً في السياسة الدولية والشرق الأوسط في جامعتي أكسفورد وبروكسل الحرة، أو مقيماً في القاهرة لعدة سنوات (2011 – 2016)، أو حتى مراسلاً ومحللاً دائماً للمشهد السياسي العربي عبر أبرز الصحف وقنوات الإعلام الأوروبية، لذلك اعتبرت الصحافة البلجيكية كتابه الجديد "عملاً مرجعياً رصيناً وشخصياً في آنٍ، يجمع بين التحليل الأكاديمي والتجربة المعيشة".

لا يسقط المؤلّف في السرد التاريخي المبسط أو المبتسر

يرتكز الكتاب على بنية زمنية واضحة، تبدأ من رسم خط زمني طويل يمتد من سنة 650 قبل الميلاد وحتى لحظتنا الراهنة، وفي محاولة منه لتجاوز القراءات المبتسرة والسطحية الشائعة في الصحافة والسياسة الغربية عن بلدان الشرق الأوسط، يعود كورت ديبوف منذ الفصل الأول، إلى الصراع بين الحيثيين (تركيا حالياً) والمصريين، مستخرجاً من معاهدة السلام المبرمة بينهما عام 1259 ق.م تعبيراً بالغ الدلالة، يقول: "إن آلاف الآلهة ستضمن لمن يمتثل أن يعيش حياة غنية وسعيدة مع أهل بيته وأولاده ورعيته". من هذا النص القديم، يشير إلى أن الحاجة إلى النظام والسلام والشرعية، كانت دائماً أسساً جوهرية في الثقافة السياسية الشرقية القديمة، ولكن هل تحولت هذه الفترات التاريخية إلى يوتوبيا؟ بالطبع الإجابة: لا. 
ينتقل الكاتب إلى محطات حاسمة في تاريخ الشرق الأوسط وتشكل بلدانه وحضاراته، بدءاً من صعود الإسلام والخلفاء الراشدين، ثم الخلافات المذهبية والدولة العثمانية والاستعمار الأوروبي، وصولاً إلى معاهدة سايكس–بيكو الشهيرة عام 1916، وخيانة أوروبا للعرب على يد لورانس العرب، وإنشاء دولة إسرائيل، وليس نهاية بالحروب المعاصرة، من حرب الخليج الأولى، مروراً بالاحتلال الأميركي للعراق، إلى الإبادة الجماعية في غزة.

يرتكز الكتاب على خط زمني يمتد من 650 ق.م وحتى اليوم

يُوجّه ديبوف نقداً واضحاً لما يصفه بـ "الجهل الغربي المؤسّسي" بالشرق الأوسط، والذي لا يزال قائماً رغم العقود الطويلة من التدخلات العسكرية والسياسية، مشيراً إلى أن أوروبا الحديثة، التي ورثت ماضيها الكولونيالي، لا تزال تتعامل مع المنطقة بعين متعالية، دون رغبة حقيقية في الفهم. حتى على المستوى الأكاديمي، يعبر المؤلف عن قلقه من تقليص برامج الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية، ويصف ذلك بأنه "تخلٍّ عن المعرفة لصالح الجهل".

كما يشير إلى مواقف محددة بوصفها دليلاً على ازدواجية المعايير التي ما زالت الدول الغربية تنتهجها في تعاملها مع صراعات الشرق الأوسط، ومن أهمها: دعم الغرب أنظمة قمعية بحجة الاستقرار، وتجاهل الجرائم البشعة التي تسبب فيها جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، أو السكوت أمام انتهاكات كبرى لأن الحديث عنها قد يزعج الحلفاء. 

في هذا السياق، يذكّر ديبوف بما وصفه إدوارد سعيد عن صورة "الشرق" في الوعي الغربي: "شهواني، عنيف، متخلّف، وعالق في زمن جامد". كذلك يخلص إلى أن الانقسام الحقيقي في المنطقة لا يكمن في الدين أو العرق أو الطائفة، بل في الثنائية السياسية بين قوى الثورة وقوى الاستقرار؛ والثورة هنا لا تعني المطالبة بالحرية فقط، بل أيضاً الرغبة العميقة في قلب النظام الإقليمي الموروث من الاستعمار، بما فيه الحدود والعلاقات مع الغرب وطبيعة النظم الحاكمة. وضمن هذه الثنائية، يضع ديبوف إيران وحزب الله وحماس وتركيا (ما بعد 2011) في معسكر الثورة، بينما يضع السعودية ومصر والإمارات والأردن في معسكر الاستقرار، أي تلك النظم التي تستثمر في البقاء السياسي، وترى في الإصلاح التدريجي بديلاً مريحاً للتغيير الثوري.

من نقاط القوة في أسلوب ديبوف التحليلي استخدامه نتائج التحليل النفسي لفهم دوافع الدول والجماعات والكيانات السياسية، ففي كتابه السابق "لماذا لن تكون هذه هي الحرب الأخيرة" (2022)، قدّم تصوراً واضحاً عن كيفية تحول الأمم إلى كيانات مصابة بالهوية المعطوبة أو المهزوزة، تماماً كما يصاب الأفراد بالاكتئاب أو اضطرابات ما بعد الصدمة. ويواصل في "ما يجب أن تعرفه لفهم الشرق الأوسط"، هذا الخط التحليلي في خلفية شروحاته السياسية المتعمقة، محاولاً فهم منطق الكراهية الذي يحكم العلاقة بين الطرفين حتى يومنا هذا، أو لماذا تُنتج الثورات عنفاً مضاداً، ولماذا تفشل التحولات السياسية حين يغيب الأمل الجماعي، وهو المنظور الذي وسع من أفق الكتاب وجعله أكثر ثراءً وابتعاداً عن التفسيرات السطحية للصراعات السياسية والاجتماعية التي تنشأ بعد الثورات العنيفة التي تحدث في مجتمعات غير متطورة تقنياً.

لا يستخدم ديبوف لغة معقدة أو أكاديمية مغلقة، كما لا يسقط في السرد التاريخي المبسط أو المبتسر، ولذلك يمتاز الكتاب بكثافة توثيقية غير متعالية، خاصة حين يستخدم شهادات مباشرة، أو يشير إلى أحداث عاشها بنفسه، مثل وجوده في القاهرة إبان ثورة 2011، أو زياراته المتكررة إلى غزة وسورية. وكذلك لا يدّعي الحياد التام، موضحاً أنه لا ينطلق من منطلقات سياسية، بل من حرص إنساني على الفهم والمصالحة، لهذا السبب يظهر تعاطفه مع معاناة الفلسطينيين، ويتفهم المطالب الشيعية في العراق دون أن يبرر العنف، ويفضح أخطاء الأوروبيين دون أن يُبرّئ العرب من مسؤولياتهم. لتبقى الرسالة المركزية التي يكررها ديبوف، بين السطور وفي الخاتمة، هي أن "الفهم الحقيقي" من الطرفين شرط أساس لأي أمل في السلام، أو حتى إدارة الصراع. 
أما عن علاقة الغرب بالشرق الأوسط، فهي "علاقة مليئة بالتناقضات" وفقاً لديبوف، فبينما: "يتحدث الغرب عن الديمقراطية، نجده يدعم الأنظمة القمعية، وبينما ينتقد انتهاكات حقوق الإنسان، نراه يبيع الأسلحة، ويغض الطرف عن المجازر التي ترتكب ضد العزل"، أوروبا اليوم، كما يصفها "تعاني من شعور بالذنب، لكنها لا تفعل شيئاً، والولايات المتحدة وروسيا والصين يتعاملون مع الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ، لا كمنطقة بشر". في نهاية الكتاب، لا يقدم ديبوف حلولاً نهائية، لكنه يقدم ما هو أهم: أسئلة جديدة، ونظرة نقدية مختلفة، وإمكانية لفهم الشرق الأوسط خارج الكليشيهات المعتادة. الكتاب ظهر في لحظة مواتية، فهو لم يُكتب فقط للقارئ الأوروبي، بل أيضاً ليمنح القارئ العربي فرصة أن يرى كيف يمكن لفكر غربي أن يقترب من قضاياه باحترام ووعي وجرأة. 


* شاعر وكاتب من مصر

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية