
يتضح من قراءات ومواقف وحقائق جزئية عديدة، أن العالم، بما هو بناء أخلاقي وقانوني شيّدته البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، لم يعد سوى أطلالٍ تُنشِّط خرابها ببلاغات حسن النيّة، وإعلان المبادئ الدافئة، والحرص على طقوس مناسباتية يقتضيها بقاء هيئة الأمم المتحدة على قيد الحياة. ويتّضح أكثر، ومن خلال تيّارات فكرية لها مناصرون كثر في خريطة القرن الواحد والعشرين، أن أوروبا التي كانت ساحة ميلاد عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تعود إلى امتحان نفسها وهُويَّتها في ضوء حربٍ هي الأولى من نوعها، منذ نهاية النازية والفاشية، فوق ترابها، حرب روسيا ضدّ أوكرانيا، وامتداداتها، باعتبارها تصدّعاً بين الغرب القديم والشرق الجديد. ولعلّنا (عرباً ومسلمين، وشعوباً تنتمي إلى كتلة حضارية شبه متجانسة) المنطقة الأكثر تجسيداً لنهاية العالم، كما ابتكرت في ضوء قيم إنسانية مشتركة، ونبذ للعنصرية والعنف وقانون الغاب... إنها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إجمالاً، يمكن القول من هذه الزاوية إنّ منطقة الشرق الأوسط، وفي قلبها العالمان العربي والإسلامي، وشمال أفريقيا، جَنتْ من نهاية الإمبراطوريات الاستعمارية وسقوط الأنظمة الفاشية والاستعمار المباشر، استقلالات أخرجت إلى الوجود دولاً وطنية، بهذا القدر أو ذاك من النجاعة الوجودية والفاعلية التاريخية، كما طوّرت الدول حديثة العهد هُويَّات ذاتية، ضمن انتماء واسع، قومي أو عَقَدي، مكّنها من البحث عن أفق تاريخي مشترك، طوال المدّة التي تفصلنا عن نهاية الحرب العالمية الثانية (تزامنت مع ميلاد جامعة الدول العربية كما نعرف). وبالرغم من هذا المسار نحو تحقّق هُويَّات وطنية للدولة العربية، كان كلّ منعطف من منعطفات هذا العالم الجديد يشكّل تراجيديا عميقة، تضيع فيها قطعة من الهُويَّة المشتركة، حدث ذلك في 1948، والحرب تضع أوزارها، عندما أضاعت الأمّة العربية الإسلامية فلسطين، وما زالت تفقد، مع كلّ مرحلة تاريخية جديدة، جزءاً من ترابها.
لم ينتبه العقل الشرق أوسطي إلى أن الثابت هو عدم تأجبل ما لا يؤجل، أي بناء الدولة الوطنية القادرة على تجسيد هُويَّتها على قاعدة جدول أعمال تاريخي
في المنعطف الثاني، بعد هذا التحوّل التاريخي، وفي وقت كانت فيه دعوة "نهاية التاريخ"، المفهوم الأبرز في تأطير التحوّلات الكُبرى، كانت منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي عموماً في طور فقدان العراق، وفتح الأبواب نحو مرحلة ثانية من "جغرافية الضياع"، بحيث كان واضحاً أن العراق سيخرج من دائرة الفعل الوطني، كما ترفعه الشعوب شعاراً لقيام السيادة وتحرير فلسطين وربح معركة التطوّر العلمي، ليصبح احتياطاً جغرافياً وبشرياً في معادلة جديدة تقودها الجمهورية الإسلامية بأفق غير مسبوق.
ومع تحوّلات "الربيع العربي" اتّضح أن دول المنطقة تعيد الإقامة فوق أراضٍ تميد تحت أقدام أصحابها، من دون أن تشعر شعوبها بذلك في العموم، نظراً لوجود نقاط ارتكاز إقليمية تقودها طهران (سورية، اليمن...). وكما هو حال السبحة المتناثرة، كانت الدول تسقط، بفعل انحياز طائفي، أو بفعل جدول أعمال مناهض للغرب ولإسرائيل، الواحدة تلو الأخرى، في سلّة المقتنيات الجيوستراتيجية الإيرانية، ولم يعتد العقل العربي الإسلامي أن يرى في ذلك نقطة ضعف أو مثلبة، بقدر ما كان يجد المسوّغات الدينية والسياسية، مهما كانت رومانسيةً وبعيدةً من الواقع لتحيين السؤال حول مناهضة الإمبريالية، وسؤال التحرّر الوطني مجسّداً في فلسطين. وفي كلّ مرّة، وكما في السابق مع التيّارات القومية والماركسية القومية والتيار الإسلامي السياسي السُّنّي، لم ينتبه العقل الشرق أوسطي إلى أن الثابت هو انهيار المشروع وضعف الحيلة ومراكمة الهزائم، وتأجيل ما لا يؤجّل، أي بناء الدولة الوطنية القادرة على تجسيد هُويَّتها على قاعدة جدول أعمال تاريخي يليق بأفقها الديمقراطي والتحرّري والتنموي. ولعلّ جزءاً من قصور الدولة العربية، في المنظومة الدولية، يتحدّد على هذا الأساس، ولعلّ العجز عن التأثير في هذه المنظومة، قيماً وقوانين وموازين قوى، يتأتى من هذا العجز في بند الهُويّة الوطنية للدولة، على أساس التعاقد التاريخي بين الحكّام والمحكومين، الذي يُعدّ بدوره تراكماً إنسانياً للبشرية جمعاء، يعطي صوتاً مسموعاً لهذه الدول.
لا يزال الشرط الأخلاقي القانوني في بناء العالم نقطة ترافعنا أمامه
قد يكون الموقف، الراديكالي أخلاقياً، حتى يبرّر الدعوة إلى الخروج من منظومة الأمم المتحدة وهيئاتها وأجهزتها التنفيذية، بصيغة استنكار تاريخي: ما دمنا نتعرّض للظلم نتيجة الكيل بمكيالين، ما علينا سوى التحرّر كلّياً من هذه المنظومة، وعدم الاعتراف بها. وهو موقفٌ لا يقف عند العدمية، بل ينزع من الدولة العربية السلاحَ الوحيد لكي يكون لها صوت في العالم.
كانت الدول العربية في بداية القرن العشرين غير موجودة عند تأسيس الأمم المتحدة، ولم تكن غالبية الخريطة العربية مرسومةً في مكاتبها، لكنّها استطاعت أن تصل، ضمن مدّ تحرّري إنساني، من إسماع صوتها والدفاع عن وجودها، مع توفير مقوّمات النضال الذاتي والمقاومة الأهلية.
... ما زال الشرط الأخلاقي القانوني في بناء العالم هو نقطة ترافعنا أمامه، كما أنه ما زال نقطة ارتكاز لكلّ من يساندنا من الشعوب، التي تخرج إلى الشارع دفاعاً عنّا، من باب القيم التي شيّدتها البشرية بعد حرب النازية والفاشية الرهيبتَين.
