
قبل انقضاء المهلة التي حدّدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب (أسبوعين) لاتخاذ قرار بشأن مهاجمة إيران، نفّذت طائرات وغوّاصات أميركية، فجر الأحد الماضي، ضرباتٍ استهدفت مفاعلاتٍ نوويةً في فوردو وأصفهان ونطنز. ويثبت مجدّداً هذا التصعيد النوعي والخطير (وإن كان متوقعاً)، الذي لم يحسم الحرب على أهميته، التزام ترامب حماية أمن إسرائيل وتفوقها الإقليمي، وضمان احتكارها السلاح النووي ومنع إيران من امتلاكه. لقد برهن مرّة أخرى أنه مراوغ وكذّاب ومخادع، يستخدم المفاوضات، والمهل للمفاوضات، غطاءً لاستكمال الاستعدادات للحرب، ونقل التحالف الأميركي الإسرائيلي إلى مستويات أكبر من السابق، بصورة ستقيّد أيَّ رئيس قادم. وبات واضحاً أن هذه ليست حرباً إسرائيلية فحسب، بل أميركية إسرائيلية مشتركة. وقد يؤدّي هذا التصعيد الخطير إلى أحد احتمالين: إمّا التمهيد لاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني، أو الدخول في مرحلة جديدة من الحرب أكثر اتساعاً وخطورةً، وربّما تحوّلها حرباً مفتوحةً إقليميةً أو دوليةً، أو بقاؤها في إطارها التقليدي: ضربة مقابل ضربة، وانتظار الطرف الذي يصرخ أولاً.
هناك عدة سيناريوهات (محتملة) تواجهها إيران. الأول (الأكثر ترجيحاً) أن تواصل إيران قصفها إسرائيل، بوصفها القاعدة الأميركية الأكثر أهمية في المنطقة، بهدف استعادة هيبتها وقوة ردعها، ودفع إسرائيل إلى قبول حلّ متوازن. إذ يجعل عدم وجود حدود برية مشتركة بين إيران وإسرائيل من المستحيل تحقيق نصر حاسم، فلا حسم من دون قوات برّية، لذا يبدو تغيير النظام الإيراني بوسائل عسكرية صعباً جدّاً. فالمعارضة الإيرانية بدت ضعيفةً وفشلت في تقديم بديل جادّ، بل صرّح بعض رموزها بأنهم لن يأتوا إلى الحكم على متن الطائرات الأميركية الإسرائيلية. والضربات الجوية، مهما بلغت قوتها، لا يمكنها القضاء على النظام الإيراني أو برنامجه النووي، بل تؤخّره أشهراً أو سنواتٍ فقط. وقد يختار القادة الإيرانيون، ضمن سيناريو فرعي، يفتح الطريق لحلّ شبه متوازن على أساس إعطاء أولوية لبقاء النظام على استمرار البرنامج النووي، ما يفتح الباب أمام مرونة تفاوضية مستقبلاً، إذا نضجت شروطها، ولكن ما يعيق ذلك عدم وجود ضماناتٍ بأن يُكتفى بوقف البرنامج النووي، خصوصاً إذا أبدت طهران علامات ضعف، فلم يعد ممكنا الوثوق بما يتعهّد به ترامب.
لا تستطيع إسرائيل تحمّل حرب طويلة، خصوصاً في ظلّ الخسائر الكبيرة، البشرية والاقتصادية والعسكرية والمعنوية
لا تستطيع إسرائيل تحمّل حرب طويلة، خصوصاً في ظلّ الخسائر الكبيرة، البشرية والاقتصادية والعسكرية والمعنوية، وما قد يفسّر تفضيل هذا السيناريو تقليل إيران من أهمية الضربة الأميركية حتى لا تؤاخذ إذا لم تردّ عليها، واقتصار ردّها على أهداف إسرائيلية، رغم إمكانية تنفيذ ضربات رمزية ضدّ أهداف أميركية في المنطقة من دون خسائر بشرية، وكذلك تضخيم إدارة ترامب الإنجاز الذي حقّقته بالحديث عن تدمير البرنامج النووي، رغم أن هناك شواهد على نقل اليورانيوم المخصّب قبل العدوان الأميركي، وقد يفتح هذا السيناريو الباب لاتفاق إيراني أميركي لعدم قصف الأهداف الإسرائيلية الأميركية رغم استمرار الحرب، على غرار الاتفاق الأميركي مع الحوثيين، كما يظهر في دعوة طهران إلى السلام، والتأكيد أن واشنطن لن تستهدف المزيد من الأهداف الإيرانية.
السيناريو الثاني (قليل الاحتمال)، أن توسّع إيران المواجهة وتهاجم القواعد والمصالح والأساطيل الأميركية في الخليج، وتغلق مضيق هرمز، وتقصف أهدافاً اقتصادية واستراتيجية. سيدفع هذا السيناريو إلى حرب طويلة قد تتحوّل حرباً إقليمية، وحتى دولية، ويعزّز توجّه واشنطن إلى ردّ عسكري أوسع، وقد يمكّنها من حشد تحالف إقليمي - دولي ضدّ إيران، كما يمكن أن يؤدّي بالدول المضيفة للقواعد الأميركية إلى التورّط في الحرب. وقد تلجأ إيران في هذه الحالة إلى دعم حلفائها الإقليميين (خصوصاً في اليمن) لفتح جبهات جديدة، ويتعزّز هذا السيناريو إذا تيقّنت إيران من أن الأهداف الأميركية لا تقتصر على البرنامج النووي، بل تطاول البرنامج الصاروخي، وتصل إلى إسقاط النظام.
يتمثل سيناريو ثالث في توجّه طهران مباشرة إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط النار، فتبدي مرونةً كبيرةً لوقف التصعيد، مفضّلةً الحفاظ على النظام على حساب البرنامج النووي. هذا السيناريو ضعيف حتى الآن، في غياب أيّ ضمانات أميركية أو إسرائيلية بالاكتفاء بوقف البرنامج النووي الإيراني من دون المطالبة بتفكيك البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي، وربّما السعي إلى تغيير النظام، وهناك التزام إيراني بمواصلة البرنامج النووي في كلّ الأحوال، فكما قال مستشار رئيس مجلس الشورى الإيراني، مهدي محمّدي: "لا يمكن قصف العلم والمعرفة".
وقد تحصل إيران على القنبلة النووية (السيناريو الرابع)، مستغلّةً العدوان الأميركي الإسرائيلي، رغم التزامها بمعاهدة عدم الانتشار النووي، لتغيير فتوى المرشد التي تحرّم إنتاج القنبلة النووية، وتبدأ بإنتاجها فعلياً مستندةً إلى دعم داخلي ودولي متزايد، خصوصاً في ظلّ امتلاكها كمّيات كافية من اليورانيوم المخصّب لإنتاج نحو عشر قنابل نووية. يعزّز هذا السيناريو أن العالم وقف عاجزاً أمام عدوان دولة نووية (إسرائيل)، لم تنضمّ أصلاً إلى معاهدة منع الانتشار، على دولة عضو ملتزمة، وهذا يدفع أصواتاً إيرانية عديدة (تزايدت بعد العدوان) للمطالبة بتصنيع القنبلة النووية لضمان الردع وتحقيق توازن القوة. وما يضعف هذا السيناريو أنه سيدفع إدارة ترامب إلى عمل كلّ ما يلزم لمنع دخول إيران نادي الدول النووية.
هناك مسارات مفتوحة؛ استمرار الحرب بصيغة "ضربة مقابل ضربة" حتى تنضج شروط تسوية متوازنة؛ توسيع الحرب لتتحوّل حرباً إقليمية أو دولية؛ تقديم بقاء النظام على البرنامج النووي؛ أو الشروع في إنتاج القنبلة النووية خياراً وجودياً. لتحديد أيّ سيناريو ستختاره القيادة الإيرانية، يوضع في الحسبان أن مكوّنات الجمهورية الإسلامية متنوعة أيديولوجياً دينياً قومياً، ويتوقّف الاختيار أولاً على ما تبقّى من قدرات عسكرية وأمنية (خصوصاً الصاروخية)، وهل ستسدّ الثغرة الاستخبارية الأمنية وتحدّ من التفوّق الجوي الإسرائيلي. يمكن التوصّل إلى اتفاق عندما يُستنزَف الطرفان، ويتوصّلان إلى قناعة بعدم قدرة أحدهما على الانتصار بالضربة القاضية، وهذا متوافر عند القيادة الإيرانية، ويجب أن يتوافر عند الحكومة الإسرائيلية التي بالغت كثيراً بالانتصار التاريخي، وتراهن على مزيد من الانخراط الأميركي في الحرب.
كالعادة، بعد العدوان مباشرةً، خرجت أصوات تبشّر بانتصار أميركي حاسم سريع، مدّعيةً أن إيران تشكّل خطراً وجودياً لا يمكن التساهل معه، وأنها خسرت وعليها الاعتراف بذلك. كان بعض هؤلاء قبل ساعات يزعمون أن ترامب لن يهاجم، وأنه سيتخلّى عن نتنياهو تحت شعار "أميركا أولاً". لكنّ الحقيقة أن إسرائيل (المحمية نووياً من أميركا والعالم الغربي) ليست مهدّدةً وجودياً، بل هي التي تهدّد جيرانها، فعلاقتها العضوية بالولايات المتحدة تجعل الأخيرة جاهزةً للمشاركة معها لتحقيق الأهداف المشتركة، وغير مستعدّة لقبول هزيمتها، بل ستدعمها لتنتصر من أجل هدف مشترك، إعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق الرؤية الأميركية الإسرائيلية. التخلّي عن إسرائيل لن يتم إلا إذا أصبحت كلفة دعمها تفوق الفوائد، وهذا ليس وارداً في المدى المنظور، فالدور الوظيفي الإسرائيلي مفيد جدّاً للاستعمار الأميركي، وكذلك بقاء هيمنته على المنطقة برمتها.
يمكن التوصّل إلى اتفاق بين إيران وإسرائيل حين يُستنزَف الطرفان، ويقتنعان بعدم قدرة أحدهما على الانتصار بالضربة القاضية
الانقسام داخل أميركا حول المشاركة في الحرب واضح، حتى داخل معسكر ترامب. وقد تأخذ إيران هذا بالحسبان عند تقرير طبيعة الردّ، فهي بين نارَين، فالردّ على أهداف أميركية قد يعزّز موقف الصقور الداعين إلى الحرب، لكنّه قد يمنح أيضاً دفعةً للمعارضة الرافضة للتورّط العسكري خشية من التورّط في الحرب. وحتى سقوط النظام إن حصل فلن يكون النهاية، فعشرات ملايين الأنصار والجنود وأفراد الحرس الثوري والباسيج لن يتبخّروا. لذا فالأرجح أن تندلع في البداية فوضى شبيهة بما حدث بعد سقوط صدّام حسين، فنشأت حركات مقاومة وتنظيمات متطرّفة في بيئة مضطربة. وما جرى في أفغانستان يؤكّد الدرس، فبعد 20 عاماً من الاحتلال الأميركي عادت حركة طالبان إلى الحكم، رغم أن القوات الأميركية بلغت أكثر من مائة ألف جندي. فانسحبوا مهزومين، وتركوا عملاءهم وراءهم يتشبّثون بأجنحة الطائرات الهاربة. الشعوب في النهاية تريد تقرير مصيرها، لا أن يُفرض عليها نظام تابع لأيّاً كان.
نقطة الضعف القاتلة في الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية، خصوصاً في عهدَي ترامب ونتنياهو، أن الحروب تبدأ من دون تصوّر واقعي لكيفية إنهائها. فبدلاً من تبنّي أهداف مرحلية واقعية، تُطرح أهداف "الحدّ الأقصى"، وعند العجز عن تحقيقها، هناك عجز أيضاً عن التراجع. لو كانت حكومة نتنياهو أقلّ تطرّفاً بعد "طوفان الأقصى"، لطرحت أهدافاً محدودةً: إطلاق الأسرى، وإضعاف "حماس"، وتمهيد الطريق لعودة السلطة إلى غزّة... لكنّها تسعى إلى تدمير القطاع بالكامل وتهجير سكّانه، ضمن مخطّط تصفية القضية برمّتها. وهذا يضع الفلسطينيين، بفصائلهم كلّها، في المعسكر نفسه تحت النيران نفسها، شاؤوا أم أبوا. أمّا الإدارة الأميركية، فلو اكتفت بمنع إيران من امتلاك القنبلة النووية، لكان بالإمكان التوصّل إلى اتفاق، خصوصاً أن المرشد أفتى بتحريم امتلاك السلاح النووي. لكنّ أميركا تريد تغيير النظام، لأنها لا تتقبل وجود قوة إقليمية منافسة لإسرائيل.
