
بين 13 يونيو/ حزيران 2025، تاريخ بدء العدوان الإسرائيلي على إيران، وفجر 22 يونيو حين وجّهت المقاتلات الأميركية ضربات لمنشآت فوردو وأصفهان ونطنز النووية، عشرة أيام كاملة من مسار خطّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب قائم على التلاعب بالوقائع والتصريحات، في محاولة لخداع الإيرانيين وطمأنتهم بأن أي انخراط من قِبل واشنطن في الحرب لن يكون قريباً، لكن في الوقت نفسه كان طيلة هذه الفترة يشيد بما أنجزه الإسرائيليون وكأنه إنجاز للولايات المتحدة، ممهداً الطريق للحظة المتوقعة، أي دخوله إلى المشهد وهو العاجز بحسب ما تظهره وقائع ممارساته منذ سنوات عن البقاء خارج المشهد، ليتصدّره بتوجيه ضربات للمنشآت النووية، فجر الأحد الماضي، قبل أن يبدأ الحديث عن إمكان تغيير النظام الحاكم في طهران، ما يفتح المجال أمام مزيد من التساؤلات حول التوجهات المقبلة لترامب تجاه العدوان على إيران.
أسبوع مناورة ترامب
وفي حين يثير الانخراط الأميركي بالحرب مخاوف في واشنطن من الغرق في صراع الشرق الأوسط وتعرّض المصالح الأميركية لضربات انتقامية إيرانية، فإن ترامب، وبحسب ما تظهر التسريبات التي تنشرها تباعاً صحف ومواقع إخبارية أميركية، بينها واشنطن بوست ونيويورك تايمز، خاض خلال أكثر من أسبوع مناورة خداع استراتيجية، إذ بدأ بإصدار تهديدات عسكرية ضد طهران على وسائل التواصل الاجتماعي، مع إبداء مخاوفه سراً من أن ضربة عسكرية قد تجر الولايات المتحدة إلى حرب طويلة الأمد، ثم الحديث، يوم الخميس الماضي، عن مهلة أسبوعين أمام إيران، في تكتيك لإخفاء خطط الهجوم، على الرغم من أن دونالد ترامب أرجأ إعطاء الضوء الأخضر النهائي إلى ما قبل ساعات من توجيه الضربات، وفق ما نقلت وسائل إعلام أميركية عن مسؤولين أميركيين كبار لم تسمهم. وبحسب هؤلاء، فمع حلول نهاية الأسبوع الماضي، أصبح المسؤولون الأميركيون على قناعة بأن إيران ليست مستعدة للعودة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق نووي مُرضٍ بعد اجتماع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي مع نظرائه من فرنسا وبريطانيا وألمانيا ومسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي يوم الجمعة الماضي في جنيف، وفق شبكة "سي أن أن". وبحسب الشبكة، حضر دونالد ترامب المحادثات السرية حول ضرب إيران حاملاً همّين رئيسيين: أن يكون الهجوم الأميركي حاسماً في تدمير المواقع شديدة التحصين، بما في ذلك منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم تحت الأرض؛ وأن أي إجراء يتخذه لن يجر الولايات المتحدة إلى حرب طويلة ومميتة كالتي وعد بتجنبها عندما كان مرشحاً للرئاسة. في ما يتعلق بالنقطة الأولى، أبدى المسؤولون ثقتهم في قدرة القنابل الأميركية الخارقة للتحصينات على اختراق منشأة فوردو، على الرغم من عدم اختبار مثل هذا الإجراء سابقاً. ولكن في ما يتعلق بالسؤال الثاني المتعلق بحرب طويلة الأمد، لم يستطع المسؤولون الأميركيون وعد الرئيس بأن أعمال إيران الانتقامية، التي قد تشمل استهداف الأصول أو الأفراد الأميركيين في منطقة الشرق الأوسط، لن تجر الولايات المتحدة إلى مستنقع جديد.
مع حلول نهاية الأسبوع الماضي، أصبح المسؤولون الأميركيون على قناعة بأن إيران ليست مستعدة للعودة إلى طاولة المفاوضات والتوصل إلى اتفاق نووي مُرضٍ
عملية الخداع الأميركية بدأت في منتصف ليل الجمعة بالتوقيت الأميركي واستمرت حتى صباح السبت، إذ انطلقت قاذفات بي-2 من الولايات المتحدة، بعضها اتجه غرباً كطُعم، بينما توجهت البقية بهدوء نحو الشرق مع الحد الأدنى من الاتصالات طوال الرحلة التي استغرقت 18 ساعة. سبق ذلك قول ترامب، يوم الخميس الماضي، إنه قد يستغرق "أسبوعين" لاتخاذ قرار بشأن مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، على الرغم من أن القرار كان قد بدأ يتشكل عنده نحو هذا الاتجاه. ووفق ما تنقل صحيفة واشنطن بوست عن مسؤول كبير في الإدارة مطلع بشكل مباشر على العملية، فإن تصريح دونالد ترامب حول احتمال الانتظار لمدة أسبوعين "كان محاولتنا لمفاجأة الإيرانيين". لكن المسؤول أضاف: "لكن كان هناك أيضاً بعض الحقيقة". فقد طرح ترامب سؤالاً تلو الآخر على مستشاريه طوال الأسبوع حول كيفية إبقاء العملية العسكرية محدودة في محاولة لتجنب تورط أوسع في حرب. وأوضح أنه يحتفظ بحقه في إلغاء الخطة في أي لحظة، حتى وصول الطائرات إلى المجال الجوي الإيراني حوالي الساعة السادسة من مساء السبت بتوقيت واشنطن.
وكان دونالد ترامب يستمع إلى آراء مختلفة داخل الولايات المتحدة حول التدخّل الأميركي، وقال مسؤول في الإدارة لـ"واشنطن بوست": "كان الرئيس يستمع إلى آراء أشخاص من مختلف التوجهات الأيديولوجية" لقاعدته السياسية. وأضاف: "في النهاية، رأى الرئيس أن هذا قرار ينبغي على قاعدته السياسية دعمه، لأنه في النهاية يمنع صراعاً كان من الممكن أن يحدث لو أن المرشد الأعلى أمر إيران بصنع السلاح النووي". ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤولين أوروبيين أن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أجرى يوم السبت جولة من الاتصالات مع الحلفاء الأوروبيين، وتم إبلاغهم بالضربات فور وقوعها.
كيف حسم دونالد ترامب رأيه؟
صحيفة نيويورك تايمز الأميركية كشفت بالتفاصيل مسار الخداع الأميركي وصولاً لتوجيه الضربة لإيران، ففي حين كانت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت تقول يوم الخميس الماضي إنه في ظل "الفرصة الكبيرة للمفاوضات" مع إيران، فإن دونالد ترامب سيتخذ قراراً "خلال الأسبوعين المقبلين"، كان الأخير تحت ضغط من الجناح المؤيد لعدم التدخل، للبقاء بعيداً عن الصراع، وهو كان يتناول الغداء في ذلك اليوم مع أحد أشد معارضي حملة القصف ستيفن بانون، ما أثار تكهنات بأنه قد يُؤجِّل أي عملية عسكرية. لكن الأمر كان مجرد خدعة، وفق "نيويورك تايمز"، إذ كان دونالد ترامب قد حسم أمره تقريباً بقصف المنشآت النووية الإيرانية، وكانت الاستعدادات العسكرية للهجوم المُعقَّد جارية. وبعد أقل من 30 ساعة من إدلاء ليفيت بتصريحاتها، أصدر ترامب الأمر بشن الهجوم. وبحسب الصحيفة، كان بيان ترامب عن "أسبوعين" مجرد جانب واحد من جهد أوسع نطاقاً للتضليل السياسي والعسكري استمر على مدار ثمانية أيام. وأضافت أنه حينها كانت خطة الضربة جاهزة إلى حد كبير، وتم نقل ناقلات الوقود والطائرات المقاتلة إلى مواقعها، وكان الجيش يعمل على توفير حماية إضافية للقوات الأميركية المتمركزة في المنطقة.
في الوقت نفسه، كان فريق الرئيس يراقب عن كثب ردات فعل أبرز مؤيديه على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى شاشات التلفزيون حول احتمال انضمام الولايات المتحدة إلى الحرب. واهتم الفريق بتصريحات تاكر كارلسون، المذيع المؤثر ومقدم البرامج السابق في قناة فوكس نيوز، الذي عارض بشدة انضمام الولايات المتحدة إلى إسرائيل في مواجهة إيران. استشاط دونالد ترامب غضباً من بعض تعليقات كارلسون وبدأ يشكو منه علناً وسراً. وكان الرئيس يراقب عن كثب قناة فوكس نيوز، التي كانت تبث إشادات بالعملية العسكرية الإسرائيلية، وتستضيف ضيوفاً يحثون ترامب على زيادة مشاركته. وبلغت المداولات بين مسؤولي الإدارة الأميركية بشأن ضربة أميركية محتملة على إيران ذروتها بحلول ليل الأحد 15 يونيو، عندما غادر ترامب إلى كندا لحضور اجتماع مجموعة السبع. وبدا ترامب لمستشاريه وكأنه يقترب من الموافقة على الضربة. ولكن حتى مع إجراء التخطيط العسكري بسرية، بدا أن كل منشور لترامب على وسائل التواصل الاجتماعي يُخبر العالم بما هو قادم.
مسؤول عسكري لـ"نيويورك تايمز": كان الرئيس أكبر تهديد للأمن العملياتي الذي واجهته عملية التخطيط لضرب منشآت إيران
وقال مسؤول عسكري لـ"نيويورك تايمز" إن الرئيس كان "أكبر تهديد للأمن العملياتي" الذي واجهته عملية التخطيط. ولإحداث بلبلة في خطة الهجوم، قرر المسؤولون العسكريون مغادرة مجموعتين من قاذفات بي-2 ولاية ميزوري في الوقت نفسه تقريباً. إحدى المجموعتين توجهت غرباً، باتجاه غوام، مزودة بأجهزة إرسال واستقبال يمكن لشركات الأقمار الصناعية التجارية تتبعها. بينما حلقت مجموعة أخرى من سبع قاذفات، تحمل حمولة كاملة من القنابل، وأجهزة إرسالها واستقبالها متوقفة، شرقاً باتجاه إيران، من دون أن تُكشف. وبحلول يوم الثلاثاء 17 يونيو، كان ترامب قد حسم أمره إلى حد كبير بضرب إيران، وبدأ بإطلاق تهديداتٍ عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وكتب على موقع "تروث سوشال": "نسيطر الآن سيطرة كاملة على أجواء إيران"، مُضيفاً: "نعرف تماماً مكان اختباء ما يُسمى بـ"المرشد الأعلى". إنه هدفٌ سهل، لكنه آمنٌ هناك - لن نُقصيه (نقتله!)، على الأقل ليس في الوقت الحالي". وطالب، بأحرفٍ كبيرة، بـ"الاستسلام غير المشروط".
عند هذه النقطة، أدرك العديد من مُستشاري ترامب المُعارضين للتدخل أنهم على الأرجح لن يتمكنوا من منع الرئيس من ضرب المنشآت النووية الإيرانية. لذا، حوّلوا تركيزهم إلى محاولة ضمان عدم تحوّل الحرب الأميركية إلى حربٍ شاملة "لتغيير النظام". وفي حين كان ترامب يجتمع، الخميس الماضي، مع بانون، وهو أحد أبرز منتقدي التدخل في الحرب، وهو ما فسّره البعض بأنه إشارة إلى تراجع الرئيس الأميركي عن شن ضربات، كان ترامب يقوم بتضليل مدروس عبر بث بيانه على لسان ليفيت حول مهلة الأسبوعين. وحوالي الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة بالتوقيت الأميركي، أمر ترامب الجيش ببدء مهمته في إيران. وبالنظر إلى أن قاذفات بي-2 ستستغرق 18 ساعة للطيران من ميزوري إلى إيران، فقد كان يعلم أنه لا تزال لديه ساعات عديدة أخرى لتغيير رأيه، كما فعل في اللحظة الأخيرة في عام 2019، عندما أمر بشن غارات جوية ضد أهداف إيرانية ثم ألغى تنفيذها. لكن قلة في إدارته اعتقدوا أنه سيتراجع هذه المرة.
ومع تنفيذ العملية، فجر الأحد، وبعد ساعات من مغادرة الطائرات الأميركية المجال الجوي الإيراني، ألقى ترامب خطاباً في البيت الأبيض، قائلاً إن المهمة "قضت تماماً" على القدرات النووية الإيرانية، وأشار إلى أن الحرب قد تنتهي بهذه المهمة إذا تخلّت إيران عن برنامجها النووي وتفاوضت. مع ذلك، بحلول عصر الأحد، خفف المسؤولون الأميركيون من التفاؤل، قائلين إن المنشآت النووية الإيرانية ربما تكون قد تضررت بشدة، لكنها لم تُدمر بالكامل. كما شدد نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو على أن تغيير النظام في طهران ليس الهدف. لكن ترامب، تجاوز الأمر، ملمّحاً في منشور على موقع "تروث سوشال" إلى أن أهدافه قد تتغير. وكتب: "ليس من الصواب سياسياً استخدام مصطلح تغيير النظام، ولكن إذا كان النظام الإيراني الحالي عاجزاً عن جعل إيران عظيمة مجدداً، فلماذا لا يكون هناك تغيير في النظام؟".

أخبار ذات صلة.
