
تبرز المواقف السياسية للجزائر متقدمة في دعم إيران وحقها في الدفاع عن نفسها، وأكثر حسماً للموقف المبدئي، بما فيها لدى تيارات سياسية جزائرية تبدي تحفظاً على سياسيات إيران الداخلية والإقليمية، منذ بدء العدوان الإسرائيلي. وكانت الخارجية الجزائرية قد أصدرت في غضون أسبوع ثلاثة بيانات حول الأمر، وقدم مندوبها في مجلس الأمن عمار بن جامع ثلاث مداخلات تدين قصف إيران والسعي لحرمانها من برنامجها النووي في مقابل إفلات البرنامج النووي الإسرائيلي من رقابة الهيئات الدولية ذات الصلة.
ليست المواقف الرسمية المؤيدة لإيران فحسب ما يمكن أن يبرز في هذا السياق، بل المزاج السياسي العام يعبر بشكل كامل عن دعم إيران، كبرى الأحزاب الإسلامية المحسوبة خاصة على تيار الإخوان المسلمين، إذ أصدرت حركتا مجتمع السلم والبناء الوطني، بيانات مؤيدة لطهران، وبادرت قيادة حركة مجتمع السلم الى استقبال السفير الإيراني في الجزائر علي رضا ببائي قبل أيام، للتعبير عن موقفها الداعم لطهران، كما أصدر حزب العمال اليساري بياناً أكد فيه التضامن غير المشروط مع إيران.
بغض النظر عن أن الموقف الجزائري مرتبط بعقيدة سياسية ثورية مناهضة للمشروع الصهيوني التوسع والإمبريالية الأميركية، فإن هذا الموقف الأكثر وضوحاً مقارنة بمواقف عربية وإقليمية، ولافت أن هذا التمايز الجزائري داخل الموقف العربي سبق أن تمت ملاحظته في التحفظ على بعض القرارات العربية التي كانت تدين إيران وحلفاءها في المنطقة كحزب الله والحوثيين، كما في المسألة السورية قبل سقوط نظام الأسد؛ ولفهم هذه المواقف يمكن العودة إلى بعض المسارات والمحطات التاريخية بين البلدين.
قبل استقلال الجزائر عام 1962، حدث تلاقي فكري وسياسي بين رموز فكرية جزائرية وإيرانية، وكان المفكر الجزائري مالك بن نبي قد كتب كتاب "مشكلات العالم الإسلامي"، ووضع إيران ضمن تنبؤاته السياسية بوصفه ثقلاً مهماً ومركزياً في العالم إسلامي. وفي المقابل، كان المفكر الإيراني علي شريعتي كما كثير من الإيرانيين، قد ناصر ثورة الجزائر ضدّ الاستعمار ودعا إلى دعمها، وبرزت تأثيرات كتابات المفكر الجزائري مالك بن نبي وأفكاره في أفكار شريعتي.
منذ استقلال الجزائر ظلت إيران ضمن اهتمامات العلاقات الخارجية للجزائر، بعد 13 عاماً فقط من استقلالها، وكانت الجزائر قد نجحت في مارس/ آذار 1975 بعقد وساطة بين طهران وبغداد سميت باتفاقية الجزائر، ووقعها عن العراق نائب الرئيس العراقي حينها صدام حسين، وشاه إيران رضا بهلوي والتي سمحت بخفض التوتر الحدودي بين البلدين. وفي أعقاب الثورة الإسلامية في إيران وصعود الخميني، تطورت العلاقات الجزائرية الإيرانية بشكل لافت، كان الرئيس الشاذلي بن جديد قد تسلّم السلطة في الجزائر بعد وفاة الرئيس هواري بومدين، وأوفد وزير الشؤون الدينية مولود قاسم نايت بلقاسم لزيارة الخميني.
في خضم أزمة العلاقات الإيرانية الأميركية وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ستتولى الجزائر رعاية المصالح الإيرانية في واشنطن، ما عكس مستوى الثقة السياسية بين البلدين، وهي الثقة التي ستوظفها الجزائر على نحو ناجح، للقيام بوساطة دبلوماسية بين الأميركيين والإيرانيين، بشأن أزمة الرهائن الدبلوماسيين الأميركيين في السفارة في طهران، إذ أعلن في 19 يناير 1981 التوصل إلى اتفاق بين الطرفين لحل الأزمة وتحرير الدبلوماسيين الرهائن، ووقع الاتفاق في مطار الجزائر يقضي بتسليم السلطات الإيرانية الدبلوماسيين إلى الجانب الجزائري الذي قام بنقلهم على متن طائرة للخطوط الجوية الجزائرية، حيث تسلمهم، وزير الخارجية الأميركي وارن كريستوفر في 20 يناير/ كانون الثاني 1981، مقابل إفراج واشنطن عن أموال إيرانية كانت موجودة في البنوك الأميركية.
بعد اندلاع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، ستدخل الجزائر على خط الوساطة بين البلدين، لوقف الحرب وتجنيب الشعبين والبلدين مآسي الحرب، وعمل وزير الخارجية الجزائري محمد الصديق بن يحيى، لمحاولة تقريب المواقف بين البلدين، قبل أن يتم استهداف طائرته في الأجواء العراقية في مايو/ أيار 1982، وهو ما سبَّب إحباط هذه الوساطة السياسية التي لم تكن تخدم مصالح بعض الدول التي كانت مهتمة بوقوع الصدام بين العراق وإيران.
سيحدث تغيير كبير في العلاقة بين الجزائر وطهران في التسعينيات، مع صعود موجة الإسلاميين في الجزائر، ستجد الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الثورة الإيرانية سبيلاً ونموذجاً يمكن تكراره في الجزائر، ويتحدث المسؤولون في الجزائر في تلك الفترة عن دعم وتمويل إيراني لجبهة الإنقاذ (محظورة منذ مارس/ آذار 1992)، وبعد اندلاع العنف المسلح، اعتبرت السلطات الجزائرية أن هذا الدعم الإيراني يعد دعماً مباشراً للإرهاب، وأعلن الرئيس ليامين زروال عام 1995، قطع العلاقات مع طهران.
لكن هذه القطيعة السياسية والدبلوماسية لم تدم طويلاً، وبعد تسلم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة السلطة عام 1999، أعاد في العام التالي 2000، العلاقات بين البلدين، وزار بوتفليقة إيران في أكتوبر/ تشرين الأول 2003، ورد عليها الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي بزيارة إلى الجزائر في أكتوبر 2004، وتكررت بعدها سلسلة طويلة من اللقاءات والزيارات الرئاسية المتبادلة من قبل الرئيس بوتفليقة، ومن رؤساء إيران محمود أحمدي نجاد، الذي كان قدم عرضاً للجزائر للمساعدة في الاستفادة من الطاقة النووية، والرئيس إبراهيم رئيسي في مارس/ آذار 2024.
وتتقاطع الجزائر وإيران في كثير من المواقف بشأن دعم المقاومة في فلسطين ولبنان، ومناهضة مسار التطبيع في المنطقة، وضد المشروع الإسرائيلي التوسعي، حتى وإن كانت الدوافع والحسابات مختلفة نسبياً بين الجزائر وطهران على هذا المستوى، ويفسر الباحث المختص في شؤون الشرق الأوسط كريم الأعرج خلال حديث مع "العربي الجديد"، هذه التقاطعات بأن "الجزائر تعتبر أن وجود إيران كوةً إقليميةً أفضل من وجودها فاعلاً ضعيفاً، يمكن أن تشكل حائط صد ضد المشروع الإسرائيلي، برغم تحفظات جزائرية عن بعض السياسات الإيرانية، لكنها ترى أن هذه السياسات يمكن أن تكون محل حوار عربي إيراني لحماية المصالح العربية، وهي تنطلق من أن ما يمكن أن يجمع المنطقة مع إيران أكبر مما يمكن أن يفرقها، في حال استبعاد البعد الطائفي وتعويضه بعقل إقليمي بناء".
