
من البيّن أن حمل تونس صفة حليف الولايات المتحدة من خارج حلف شمال الأطلسي (ناتو)، كما هو موقّع بين البلدَين في مذكّرة التفاهم لسنة 2015، وهي صفة تشترك فيها دول عدّة منها "إسرائيل"، وعدم امتلاك الدولة التونسية القوة الاقتصادية والقدرات العسكرية النافذة والآلية الدبلوماسية الفاعلة والمكانة الدولية المؤثّرة لدعم إيران في حربها مع الصهيونية، لم يحل دون إصدار وزارة الشؤون الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج بلاغاً (بياناً) تعلن فيه تضامنها مع الشعب الإيراني (الشقيق)، حسب وصف نصّ البيان، الذي تضمّن "تُدين تونس بأشدّ العبارات العدوان الصهيوني الغادر على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فجر هذا اليوم 13 جوان (يونيو/ حزيران) 2025، والاعتداء السّافر على سيادتها وأمنها"، معتبرة (تونس)، "أنّ الاعتداء الغاشم على إيران يُشكّل فصلاً جديداً من سلسلة الجرائم والاعتداءات المتكرّرة والمتواصلة التي يرتكبها العدوّ الصهيوني، ودليلاً إضافياً على إمعان هذا الكيان في غطرسته وسياسته العدوانية". وكان هذا الموقف متوقّعاً ومنتظراً بالنسبة إلى العارفين بالعلاقات التونسية الإيرانية، وتناميها في فترة حكم الرئيس قيّس سعيّد، فقد سبق له أن سارع في مايو/ أيار 2024 إلى زيارة طهران للمشاركة في مراسم تشييع الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، وتقديم العزاء فيه، وحينها كتب المرشد الإيراني، علي خامنئي، في منصة إكس، بعد لقائه سعيّد وإفراده بالشكر والمدح والثناء، أنه "يجب تحويل التعاطف والانسجام الحالي بين إيران وتونس إلى تعاون ميداني في مختلف المجالات"، وتلا تلك الزيارة إلغاء تأشيرة دخول السيّاح الإيرانيين تونس.
أصدرت حركة النهضة بياناً عبّرت فيه عن استنكارها الشديد للاعتداء على إيران واعتبرته تصعيداً خطيراً يُهدّد الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها
ويبدو أن خطوات التقارب التونسية مع إيران، التي أقدم عليها سعيّد، لم تتأثّر بدعوة النائب الجمهوري الأميركي، جو ويلسون، إلى قطع المساعدات عن تونس، على خلفية وجود مخاوف من أنها "تتعاون مع النظام الإيراني"، وفق ما جاء في مقال "هل يزداد التقارب بين تونس وإيران حقّاً؟"، المنشور في موقع معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، أو بما ورد في المقال الذي نشره معهد الكابيتول (أميركي)، قبل ثلاثة أسابيع من اعتداء "إسرائيل" على إيران، ونشوب الحرب بين الطرفَين، وتحديداً يوم 22 مايو الفائت، بعنوان "بين العبث الدبلوماسي والسقوط الجيو- سياسي"، اعتبرت كاتبته، شيماء العماري، أن مسار التفرّد بالحكم الذي انتهجه قيّس سعيّد بعد 25 يوليو/ تموز 2021، وما صاحبه من صراعات داخلية ومحاكمات سياسية وأزمات اقتصادية خانقة، تنامت من جرّاء انقطاع العلاقات مع صندوق النقد الدولي، أدى إلى عزلة تونس دولياً، وقد استغلّت ذلك طهران جاعلة "بوصلتها نحو تونس"، و"موجّهة أذرعها لاستغلال الوضع، من أجل تعزيز توسيع نفوذها، وإيجاد بدائل في المنطقة"، وبذلك "شهدت العلاقات التونسية الإيرانية فجأة تطوّراً ملحوظاً".
في السياق، ورغم الاختلافات والصراعات العميقة بين سلطة قيّس سعيّد ومختلف المعارضات السياسية والمدنية، وعدم الاكتراث لما تسمّيه مراكز الدراسات الاستراتيجية الأميركية والغربية، وصنّاع السياسات هناك، بـ"النفوذ الإيراني المتنامي في تونس"، لم تتأخّر القوى السياسية والمدنية والشعبية التونسية في مساندة إيران مساندة مطلقة في حربها مع "إسرائيل" وحلفائها. أصدرت حركة النهضة الإسلامية في 13 يونيو/ حزيران الحالي بياناً "تعبّر عن استنكارها الشديد لهذا الاعتداء، وتعتبره تصعيداً خطيراً يُهدّد الأمن والاستقرار في المنطقة بأسرها". وفي التاريخ نفسه، وفي "بيان حول العدوان الصهيوني على جمهورية إيران الإسلامية"، أعربت حركة الشعب، ذات الخلفية القومية العربية الناصرية، عن "يقينها من أن حجم هذا العدوان ودقّته يُثبت تورّط أطراف دولية وإقليمية داعمة للكيان الصهيوني، في مقدّمتها الولايات المتحدة الأميركية، في التخطيط للعدوان وتنفيذه"، وأن "الجريمة الجديدة التي أقدم عليها الكيان الصهيوني تُثبت من جديد حجم الخطر الذي أصبح يُمثّله هذا الكيان المجرم على أمن المنطقة والعالم، وأن الردّ الإيراني المنتظر سيكون دفاعاً شرعياً عن النفس ضدّ عدوانية هذا الكيان". الحزبان اليساريان الرئيسيان في تونس، وهما حزب العمّال (الشيوعي) وحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد، وقّعا بياناً مشتركاً مع أحزاب يسارية عربية أخرى، عنوانه "لا للعدوان على إيران لا للعربدة الصهيو- أميركية" دانا فيه بقوّة "العدوان الغادر على الشعب الإيراني وعلى سيادته ومقدراته، بدعم مفضوح من الإمبريالية الغربية والأميركية". أمّا الاتحاد العام التونسي للشغل، القوّة المدنية الأهم في تونس، فقد أصدر بياناً بعنوان "العدوان على إيران شوط في مشروع الشرق الأوسط الجديد"، يعتبر فيه أن ما جرى في المنطقة، بما في ذلك الاعتداء على إيران، هو نتاج "تخطيط أميركي - صهيوني"، وأن "المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد يدين بشدّة العدوان المسلّح على إيران، والتدمير الممنهج لمقدّراتها، واستهداف وجود شعبها".
دفعت الحرب الصهيونية الإيرانية النُّخب الفكرية والدينية والسياسية التونسية إلى مراجعة مواقفها، وتجنّب الانقسامات العقائدية القديمة
شاءت الأقدار أن يكون الاعتداء الصهيوني على إيران بالتوازي مع انطلاق قافلة الصمود الشعبية البرّية المغاربية لرفع الحصار عن غزّة، وذلك في أثناء تخييم القافلة في الأراضي الليبية، عند مشارف مدينة سرت، قبل منعها من قوات شرق ليبيا، التي يديرها خليفة حفتر، من الوصول إلى معبر السلوم الليبي المصري، وإجبارها على العودة إلى تونس، ما حوّل تلك القافلة إلى سلسلة من الاحتفالات الشعبية والمهرجانات الخطابية في مختلف المدن التونسية والليبية التي مرّت بها، ذهاباً ورجوعاً، دفاعاً عن غزّة وفلسطين في البداية، ودعماً لإيران ومساندة لها، وإشادة بدورها في تجريع الصهاينة "الإسرائيليين" المرارة نفسها التي يذيقونها يومياً للفلسطينيين في غزّة، وعموم أراضي فلسطين. لم يُرفع علم إيران في التظاهرات الشعبية المساندة لها إلا لماماً، وهي تظاهرات عرفتها العاصمة وأغلب المدن التونسية، كما الشأن بالنسبة لرايات حركات المقاومة (حزب الله و"حماس") والراية الفلسطينية، التي توشّح وقفات المساندة والتظاهرات التي تجوب الشوارع والساحات، إلا أن التعاطف الشعبي مع إيران هذه المرّة بدا واضحاً، وقد اكتسح منصّات التواصل الاجتماعي والمنتديات العامّة، وما تبقّى من برامج حوارية في القنوات التلفزيونية والإذاعات المحلّية، التي تناولت الحرب وأبعادها وتداعياتها.
دفعت الحرب الصهيونية الإيرانية النُّخب الفكرية والدينية والسياسية التونسية إلى مراجعة مواقفها، وتجنّب الانقسامات العقائدية القديمة العائدة إلى القرن الأول للهجرة والتصنيفية الطائفية الشيعية السُّنية، التي ترتكز عليها تلك الانقسامات وتبادل الاتهامات وما صاحبها من صراعات مذهبية، كثيراً ما أخذت أبعاداً سياسية عقيمة ومدمّرة. فما عاد التونسيون ينظرون إلى إيران، وهي تقاتل الصهيونية وتنتصر لغزّة وفلسطين كلها وتحارب لأجلها، نظرة مذهبية بوصفها دولة شيعية تريد بثّ مذهبها في تونس السُّنية، وإنما باتوا يرونها الندّ الحقيقي لدولة "إسرائيل"، والقوة العسكرية التي تمتلك أهلية إلحاق الهزيمة بها، لغياب قوّة عربية قادرة على فكّ الحصار عن غزّة، ولجم الغطرسة الصهيونية المتنامية، تضع في أولوياتها مواصلة الصراع العربي الصهيوني وقيادته، فردع الصهيونية بات ممكناً في ظلّ ما يُطاول المدن الكُبرى والمنشآت الاستراتيجية الحيوية العسكرية والبحثية والتكنولوجية والاقتصادية "الإسرائيلية" من ضرباتٍ صاروخية موجعة.
بعث الصمود الإيراني في مواجهة "إسرائيل" في المجتمع المدني التونسي ومنظماته وجمعياته المناهضة للكيان الصهيوني، إحياء المبادرة القديمة بجمع مليون توقيع لسنّ قانونٍ لتجريم التطبيع، وعاد إلى الشعار الأيقونة "الشعب يريد تجريم التطبيع" وهجه في التظاهرات الشوارعية، وبدأ بعض البرلمانيين في دفع رئيس البرلمان التونسي إلى استئناف الجلسة العامّة لمجلس نواب الشعب، التي أوقفت بعد التصويت على فصلين من قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي اقترحته كتلة الخطّ الوطني السيادي (11 نائباً من حركة الشعب ونائبان مستقلّان ومثلهما يساريان) بعد أيام قليلة من انطلاق ملحمة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023).
احتلّت القضية الفلسطينية مكانة متميّزة في الوعي الجمعي والتاريخي التونسي، فصارت قضيةً وطنيةً
قد يكون للموقف التونسي الداعم لإيران، في مواجهة الصهيونية، رسمياً وشعبياً، انعكاسات اقتصادية ومالية سلبية متأتّية من ارتباط الاقتصاد التونسي ارتباطاً هيكلياً باقتصادات الدول الغربية، وهذه تدعم حكوماتها "إسرائيل" من دون أدنى تحفظ، في حين تقف تونس في المعسكر المقابل، لكن مبدئية التونسيين في مساندة أي قوّة تتصدّى للصهيونية، وتدعم القضية الفلسطينية، وتساعد في تحرير فلسطين عاجلاً أم آجلاً، باتت مؤكّدة ولا تشوبها شائبة، فالقضية الفلسطينية احتلّت مكانة متميّزة في الوعي الجمعي والتاريخي التونسي، حتى صارت قضية وطنية يتنادى التونسيون لنصرتها بالحماسة نفسها التي قاوموا بها الاستعمار الفرنسي في تونس (1881-1956)، أو يزيد. وقياساً على غزو العراق سنة 2003، ومختلف الحروب والتدخّلات العسكرية الأميركية إقليمياً ودولياً، سيزيد دخول الولايات المتحدة الحرب إلى جانب "إسرائيل" ومهاجمتها المنشآت النووية الإيرانية، من حجم تعاطف الشرائح الشعبية والنُّخب التونسية مع إيران، ذلك أن العداء المستبطن تجاه الولايات المتحدة، من طيف واسع من التونسيين، لدعمها المطلق الكيان الصهيوني، لا يقلّ قيمة وأهمية عن رفضهم "إسرائيل"، والرغبة في مقاومتها بالوسائل المتاحة كافّة، المدنية منها والعسكرية، والعمل لهزيمتها، والانتصار للحقّ الفلسطيني.

أخبار ذات صلة.

