
في زمن تحكمه الأعراف الدولية ومواثيق حقوق الإنسان، تُترك غزّة، الشريط الساحلي الضيّق والمحاصر منذ سنوات، لمصيرها القاتم وسط سياسة تجويع إسرائيلية ممنهجة تمارسُ أداةَ حرب ضدّ المدنيين العزّل. في أحدث فصول المأساة، يُستخدم الجوع سلاحاً فتّاكاً، لا يترك جرحاً في الجسد، بقدر ما ينهش الكرامة ويمعن في إذلال الناس. تحوّلت سياسة الحصار أداة خنق ممنهجة، فيجري التحكّم في تدفّق الغذاء والمساعدات بما لا يلبي الحدّ الأدنى من احتياجات أكثر من مليوني إنسان. تُفتح المعابر ثم تُغلَق على نحوٍ مزاجي، وتُفرَض قيود معقّدة على إدخال الإمدادات الإنسانية. النتيجة مجاعة حقيقية تضرب مناطق واسعة، خصوصاً في شمال القطاع، وأطفال يموتون من الجوع ببطء أمام كاميرات العالم الصامتة.
وسط هذه الظروف، تتحوّل الحياة اليومية للعائلات صراعاً يومياً من أجل البقاء. عائلتي، المكوّنة من سبعة أفراد (أنا وزوجتي وخمسة أطفال)، أصبحت عاجزةً عن توفير الحدّ الأدنى من متطلّبات الحياة. لا غاز للطبخ، فنضطرّ لإشعال النار بالحطب الذي بلغ ثمنه 1.5 دولار للكيلو. نحتاج يومياً إلى أكثر من 13 كيلوغراماً من الحطب، أي ما يزيد عن 20 دولاراً لتلبية احتياجات النار اليومية فقط. أمّا أسعار المواد الغذائية، فقد أصبحت كابوساً حقيقياً. كيلو السكّر بلغ 80 دولاراً، وكيلو الطحين ارتفع من 0.5 إلى 15 دولاراً. زيت القلي قفز من 2.5 إلى 20 دولاراً. حتى الخضروات المحلّية لم تعد في المتناول. الطماطم بـ18 دولاراً للكيلوغرام، الفلفل بـ15 دولاراً، والخيار بـ20 دولاراً. إن أردنا تحضير طبق سلطة بسيط، فتكلفته تتجاوز 30 دولاراً، وإذا أردنا طبخ أيّ وجبة، فلا تقل عن مئة دولار. من أصعب اللحظات التي تمزّق قلبي عندما يأكل أطفالي حصّتهم من الخبز المتوفّر، ويبكي أحدهم أمامي ويقول إنه لا يزال جائعاً.
من الضروري ضمان وصول المساعدات إلى غزّة بطريقة تحفظ كرامة الإنسان، وتراعي الخصوصية الإنسانية
منذ شهر، زِنْت أطفالي، ولاحظت أنهم فقدوا ما لا يقل عن ثلاثة كيلوغرامات خلال شهر، بسبب نقص الغذاء. لقد زرت أكثر من 20 دولة من أوروبا إلى أستراليا، ولم أشهد في حياتي مثل هذه الأسعار أو هذا الواقع. كيف يُتوقّع لعائلات فقيرة ومحاصرة أن تستمرّ في الحياة وسط هذا الجحيم؟... في الأشهر الماضية، أطلقت الولايات المتحدة آليةً سمّيت "منظمة غزّة الإنسانية" (Gaza Humanitarian Foundation) أو "GHF"، ورغم الإعلان الأميركي أن هذه المبادرة تهدف إلى "إيصال المساعدات مباشرة إلى المحتاجين من دون المرور بالجماعات المسلّحة أو الأطراف السياسية"، إلّا أن الواقع أثبت أنها لم تلبِّ الحدّ الأدنى من المعايير الإنسانية الفعلية، وأسفرت عن نتائج كارثية ميدانياً. غياب التنسيق المحلّي أدّى إلى فوضى في التوزيع. مناطق التوزيع غير الآمنة أصبحت مسارح موت جماعي. تشجيع سياسة "التوزيع الذاتي" منح المليشيات والعصابات سيطرة على المساعدات. تجاهل المجتمع المحلّي أفقد العملية الإنسانية مشروعيّتها وفعّاليتها. تحوّلت GHF من مبادرة إنسانية إلى أداة تُعمّق الأزمة بدل أن تحلّها، وباتت تساهم في إدامة التجويع، وتشتيت المنظومة الإنسانية الفاعلة، وتغذية الفوضى الاجتماعية.
سياسة "التوزيع الذاتي": فوضى الجوع المقصودة، إذ تُرك المدنيون لتدافعهم الجماعي حول شاحنات المساعدات التي تُلقى في مناطق مفتوحة، من دون تنظيم أو إشراف إنساني. في غياب نظام توزيع منظّم، تحوّلت كلّ شاحنة إلى ساحة صراع يائس. هذه السياسات التي تروّجها إسرائيل، وتنفّذها أدوات خارجية مثل GHF، ليست سوى وصفة للفوضى والتناحر الداخلي، وحرمان ممنهج للفئات الأضعف من الغذاء. استهداف فرق التأمين عزّز الفوضى هدفاً سياسياً في كلّ محاولة لتنظيم توزيع المساعدات أو تأمينها، سواء من خلال فصائل محلّية أو لجانٍ شعبية أو حتى عائلات تحاول تنظيم طوابير الجوعى. يُستهدَف هؤلاء مباشرة، وتُبرّر إسرائيل هذه الهجمات بأن هؤلاء "عناصر من حماس"، لكن النتيجة واحدة: الفوضى والخوف ونزف دماء الأبرياء.
الفساد في بعض المؤسّسات الدولية وسط هذه المعاناة أداة آلام أخرى، فبرزت تقارير ميدانية عن بيع أفراد مرتبطين بمؤسّسات دولية معروفة داخل غزّة المساعدات للتجّار، وتحقيق أرباح طائلة من السوق السوداء، بدلاً من إيصالها إلى مُستحقّيها، الأمر الذي زاد من معاناة المدنيين، وضرب الثقة في المنظومة الإنسانية الدولية. في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان تجربة جيش أنطوان لحد في جنوب لبنان، شكّل الاحتلال الإسرائيلي مليشيات محلّية داخل غزّة، تحظى بحماية الجيش الإسرائيلي، وتنفّذ عمليات قتل وسرقة وترهيب تستهدف المدنيين، في محاولةٍ لضرب البنية الاجتماعية وإخضاع المجتمع عبر الفوضى والجوع. لضمان توزيع عادل وآمن للمساعدات في ظلّ هذا الواقع الكارثي، من الضروري التحرّك السريع والجادّ لضمان وصول المساعدات بطريقةٍ تحفظ كرامة الإنسان، وتراعي الخصوصية الإنسانية في غزّة.
حين تسكت المدافع، سيبقى شعب غزّة، ثابتاً وشامخاً، يحفر اسمه في ذاكرة الإنسانية رمزاً لصمود لا يُقهر
ولتحقيق ذلك، يجب فرض ممرّات إنسانية آمنة ومحمية دولياً بإشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، تضمن وصول المساعدات من دون تهديد أو قصف، وإشراك المنظّمات المحلّية المجتمعية ذات الثقة مثل الجمعيات الأهلية واللجان الشعبية، لضمان التوزيع العادل ومنع الاحتكار. إلغاء "التوزيع الذاتي"، وإعادة الاعتبار للآليات المنظّمة عبر مراكز توزيع ثابتة، تشرف عليها منظمّات الأمم المتحدة ومنظّمات دولية شفّافة، مع آلية وصول عادلة للفئات الأكثر ضعفاً، ومنع عسكرة المساعدات واستهداف المشرفين عليها وضمان الحماية القانونية للمجتمع المدني المنخرط في العمل الإنساني، وتوفير آلية رقابة دولية صارمة تشمل مراجعة عمل المنظمات الدولية داخل غزّة، ومساءلة كلّ من يتورّط في الفساد أو المتاجرة بالمساعدات، ومحاسبة المليشيات العميلة المرتبطة بالاحتلال باعتبارها تهديداً مباشراً للعمل الإنساني، ويجب تصنيفها مجموعاتٍ خارجةً عن القانون.
غزّة لا تموت، بل تنهض. وما لم تدركه إسرائيل بعد أن غزّة ليست مجرّد بقعة جغرافيا. إنها فكرة، حياة وأمل يتجدّد. رغم الألم والمجازر، ورغم الجوع والتدمير، فإن غزّة تضمّد جراحها بأسرع ممّا يتوقّعه أعداؤها. غزّة لا تستسلم، وغزّة تلفظ كلّ دخيل وفاسد ومُفسد، كما يلفظ البحر جثث الموتى. المليشيات واللصوص، مهما طال بقاؤهم، لن يجدوا مكاناً في غزّة في اليوم التالي لانتهاء الحرب. وغداً، حين تسكت المدافع، سيبقى شعب غزّة، ثابتاً وشامخاً، يحفر اسمه في ذاكرة الإنسانية رمزاً لصمود لا يُقهر.

أخبار ذات صلة.

