سخرية قاتمة السواد
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

لا يمكن وصف المشهد الراهن في عمّان، وفي باقي المدن الأردنية، إلا بالسوريالي. فما إن تنطلق صفّارات الإنذار مدوّيةً في الفضاء، معلنةً حالة التأهّب، يتبعها صوتٌ أجشّ لرجل أمن قائلاً: "الإخوة المواطنون، في ظلّ التصعيد العسكري في الإقليم، ورصد أجسام طائرة في سماء المملكة، نهيب بالجميع البقاء في أماكن وجودهم والابتعاد عن النوافذ والأماكن المكشوفة حفاظاً على السلامة العامّة واتباع الإرشادات الصادرة عن الجهات المختصّة". ما إن يحدث ذلك، حتى يهرع مواطنون كثيرون إلى النوافذ وأسطح المنازل والشرفات، يجهّزون بحماسة واندفاع مستلزمات السهرة من بطّيخ وشمّام ومكسّرات وأباريق شاي ودلال قهوة، ثمّ يُشهرون كاميرات هواتفهم النقالة لتصوير المسيّرات الهائمة في السماء، ونقلها في بثّ مباشر، فتسمع في الخلفيات أصواتهم المبتهجة. تمتلئ الشوارع بالصغار الأشقياء، الذين يتراكضون معجوقين فرحين منفعلين، يقلّدون صوت صفّارات الإنذار، ويرقبون السماء التي تشتعل بين الحين والآخر، رغم ورود الأنباء عن إصابات بين الأفراد، وعن خسائرَ في الممتلكات، ورغم صدور أكثر من بيان يهيب بالمواطنين عدم الاقتراب من الأجسام الساقطة. وقد وصل الأمر بأصحاب مطاعم ومقاهٍ إلى إعلان محالّهم مواقعَ استراتيجيةً مطلّةً على الصواريخ العابرة، كما ازدحمت مواقع التواصل الاجتماعي بالطرائف والنكات والتعليقات الساخرة، وتنافست المحطّات الإخبارية في استضافة المحلّلين السياسيين. وما زال التراشق اللفظي والاتهامات المتبادلة بالخيانة والعمالة والصهينة بين المتابعين على أشدّه، علاوة على نشر الإشاعات ومقاطع الفيديو المفبركة.
نفهم حالة الارتباك التي يشهدها الشارع الأردني ولجوء الناس إلى السخرية مداراةً لمشاعرالخوف، فتلك حيلة نفسية قديمة، يمارسها الشخص الخائف في مواجهة المجهول المحمّل باحتمالات مرعبة، في ظلّ التهديد بحرب نووية طاحنة لا تبقي ولا تذر في المنطقة بأسرها، غير أن مظاهر الاستهتار والاستخفاف والتظارف زادت عن حدّها، وأصبحت شديدة الإزعاج، وعبّرت عن قلّة الوعي، وانعدام حسّ المسؤولية وقصر نظر لدى كثيرين يتعاملون مع الوضع الراهن باعتباره طرفةً مضحكةً، غير مدركين جسامة الموقف، ومدى خطورته، في ظلّ التطوّرات المتسارعة في المنطقة التي لا تبشّر بخير.
ورغم كلّ شيء، تظلّ فرحة الشارع بالخسائر التي مني بها العدو الصهيوني المجرم مشروعةً، وهي ردّة فعل طبيعية لا ينكرها أيُّ عربي مقهور، وهو يشهد تجرّع الكيان الغاصب الكأس التي يعاني مرارتها أهل غزّة على مدى سنتَين من القتل والتدمير والتهجير والتجويع، على مرأى غرب منافق متآمر لم يحرّك ساكناً أمام استغاثة أطفال غزّة، المتروكين لمصيرهم، الذين باتوا يأكلون الرمل لسدّ جوعهم، ويُقتلون بدم بارد أمام مراكز المساعدات في مجازر متلاحقة، فيما تهبّ حكوماته العنصرية انتصاراً لإسرائيل، وتعبيراً وقحاً عن دعم غير مشروط في مواجهتها إيران، إيران ذاتها التي يفترض بنا الآن أن نلقي بذاكرتنا في مكبّ النفايات، وننسى (من باب عدوّ عدوي صديقي) أنها أوغلت في دماء العراقيين، وقضت على مئات آلاف منهم، وعاثت فساداً في عواصمَ عربيةٍ عديدةٍ، وكانت الداعم الأول لديكتاتور دمشق المخلوع، واصطفت في جانبه في مواجهة شعب سورية الحرّ، وأسهمت بالمال والسلاح في قتله وتشريده، ولعبت دوراً مشبوهاً في تعميق الخطاب الطائفي البغيض، الذي أدّى إلى مزيد من الانقسام في الشارع العربي خدمةً لمصالحها، غير أنها الآن تفترض حيازة صكّ البراءة، وتبيّض الصفحة من جيرانها على كلّ ما جنته أيديها من فظائع بحقّ أبناء الوطن العربي.
موقف إشكالي عصيب، يجد فيه المواطن نفسه، لأنه واقع بين أمرَين أحلاهما مرّ، وبين نارَين سيكون في جميع الحالات وقودها المعدّ للاشتعال، لذلك يمعن في السخرية قاتمة السواد سلاحاً يشهره في وجه الهول المُقبل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية