غفوة الموت... سوريون تحت وطأة أخطاء أطباء التخدير
عربي
منذ 7 ساعات
مشاركة

يقع مرضى سوريون ضحايا لأزمة أطباء التخدير، إذ يتناقص عددهم منذ عام 2010، في ظل عزوف الخريجين الجدد عن التخصص، بينما يدخل فنيون إلى غرف العمليات بدلا منهم، في مخالفة أمست اعتيادية لقانون مزاولة المهن الطبية

- استوى مؤشر نبض الصبي جود سكر (11 عاما) معلنا وفاته بإحدى غرف العناية المركزة بمستشفى العباسيين في دمشق فجر 21 مارس/أذار 2023 كاتبا نهاية غيبوبة دامت 39 يوما، وبداية صراع قضائي تخوضه الأم صباح الإبراهيم مع  المتسببين في قتل ابنها بخطأ طبي أثناء تخديره.

دخل جود المستشفى في 11 فبراير/شباط لأخذ عينة من فخذه وتحليلها للتأكد من وجود ورم سرطاني، وكان من المقرر إجراء تصوير طبقي محوري يتطلب سكونا تاما لدقائق وهو أمر صعب لمن في عمره ما استدعى تخديره، تقول والدته لـ"العربي الجديد" إن طبيب التخدير غاب وحل محله فني زعم امتلاكه خبرة 20 عاما أجري خلالها يوميا بين 20 إلى 30 عملية في غياب الطبيب المختص، أبلغته الأم بمرض ابنها بالربو واحتمال كونه أكثر حساسية للتخدير لكنه لم يأبه وخدر الفتى، و"بعد دقائق من دخوله غرفة التصوير عم الارتباك"، تقول الأم: "فجأة أبلغوني بتوقف قلبه ونقله للعناية المركزة تحت التنفس الاصطناعي حتى توفي".

ليس بعيدا عن جود وفي عيادة أسنان خاصة بمحلة الشهبندر وسط دمشق مساء 2 مايو/أيار 2023 فشلت محاولات طبيب التخدير علي بدران في إنعاش قلب الطفل زين العابدين (8 أعوام)، بعد أن دخل العيادة مع والديه لخلع أسنانه اللبنية لكنه لم يحتمل تخديره بستة أضعاف الكمية المسموحة وتوقف قلبه فورا، ليستدعي الطبيب سيارة إسعاف تنقله لمستشفى الأندلس الخاصة حيث بات ليلته تحت العناية المركزة قبل إعلان وفاته صباحا، بينما لاذ بدران رفقة طبيب الأسنان أنس سليم بالفرار.

حصل "العربي الجديد" على ملفي قضيتي جود وزين العابدين، ويتهم التقرير الطبي للأول طبيب التخدير بالتقصير والإهمال ويحمله 70% من مسؤولية موت الفتى فيما يحمل فني التخدير محمد مؤيد 30% منها، لكن الطبيب لم يحاكم بينما وجه للفني تهمة التسبب بالوفاة وبحسب محامي الأسرة بسّام قشمر فهي جنحة خفيفة العقوبة حبس على إثرها الفني بضعة أشهر ثم أطلق سراحه بعد مرسوم عفو رئاسي رقم (36) لعام 2023، أما ملف قضية زين العابدين فحمل طبيب التخدير 70% من المسؤولية، بينما تحمل طبيب الأسنان أنس سليم 30%، وصدرت بحقهما مذكرتا توقيف غيابيتان لهروبهما.

موت جود وزين العابدين ليسا استثناء كأحد تداعيات أخطاء أطباء التخدير المتكررة والمقدرة بالعشرات باعتراف الدكتور نضال بيازيد أمين سر نقابة الأطباء، لكن معظمها يحل وديا دون اللجوء إلى القضاء ما جعل عدد الدعاوى ضد أطباء التخدير "محدودا لا يتعدى أصابع اليد الواحدة"، الأمر نفسه يؤكده نقيب الأطباء مالك العطوي لـ"العربي الجديد" قائلا إنه حال تعرض مريض لضرر يتعهد الطبيب بعلاجه فلا يتحرك المتضرر قضائيا ولا حتى نقابيا، مشيرًا إلى أنه بين 35 ألف طبيب سوري تُحيل سنوياً نحو 50 طبيبا فحسب من مختلف الاختصاصات للمجالس المسلكية بسبب أخطاء طبية. 

 

أزمة أطباء التخدير

يعترف رئيس رابطة أطباء التخدير وتدبير الألم بنقابة الأطباء فواز هلال بحساسية وخطورة أخطاء أطباء التخدير وتسبب بعضها في الوفاة لكنه يرجعها لضغط العمل الشديد الواقع على أطباء التخدير، موضحًا لـ"العربي الجديد" عدم تجاوز عددهم  698 طبيبا موزعين بين المشافي الحكومية والخاصة معظمهم من كبار العمر ويقول: "75 طبيب تخدير فقط أصغر من 40 عاما، ما يعكس فجوة جيلية ومهنية مقلقة في هذا التخصص الحساس".

ووفق البيانات المنشورة بموقع الاتحاد العالمي لجمعيات أطباء التخدير يبلغ المعدل في سورية 2.32 طبيبا لكل 100 ألف نسمة وهو قليل مقارنة بدول جارة كالأردن 4.6 أطباء ولبنان 6.28 أطباء لكل 100 ألف نسمة، ويصنف الاتحاد الدول طبقا للمعدل فهي إما "خضراء" تضم أكثر من 20 طبيبا لكل 100 ألف نسمة أو "حمراء" لديها أقل من طبيب لكل 100 ألف نسمة، وسورية بمعدلها الحالي في المنطقة قبل الخطيرة مباشرة "برتقالية" أي أكثر من طبيب وأقل من 3 أطباء، وهو نفس الوضع بالنسبة للعراق بمعدل 1.9 طبيب وفلسطين 2.64 طبيب لكل 100 ألف نسمة.

698 طبيب تخدير بمعدل 2.3 لكل 100 ألف نسمة في سورية
 

الأزمة ليست وليدة اليوم، ففي عام 2016، أطلقت رابطة أطباء التخدير تحذيرا لم يجد نفعا، إذ سبق أن طالبت وزارة الصحة باتخاذ إجراءات لتشجيع خريجي كليات الطب على التخصص سدا للعجز المزمن، ومع ذلك تشير إحصاءات نقابة الأطباء التي حصل عليها "العربي الجديد" إلى انخفاض عدد أطباء التخدير في البلاد بنسبة 24.5% من 925 طبيبا في 2010 لتصل إلى 698 طبيبا في 2024 ويرجع هلال هذا الانخفاض إلى هجرة الأطباء جراء الحرب.

يتجسد العجز في ضغط عمل كبير تواجهه رلى داغوم أخصائية التخدير بمستشفى المواساة في دمشق وزملاؤها، إذ تدير أربع غرف عمليات وتشارك في عشر جراحات يوميا على الأقل، ويعاونها طلاب دراسات عليا وفنيون لا تستطيع الاعتماد عليهم كليا حتى لا تعرض المرضى للخطر بسبب قلة خبرتهم، ولضعف الرواتب تضطر للعمل في مستشفى خاص لكنه بالطبع "ليس بنفس الضغط" وهناك تدير فقط غرفتي عمليات، وهو برأي فواز هلال "العدد المنطقي" الذي يمكن لطبيب التخدير إدارته في آن واحد. 

 

الاعتماد على فنيي التخدير

يعرف فواز هلال فني التخدير بأنه خريج معهد متوسط تخصص تمريض وتخدير تلقى تعليما يمتد لسنتين بعد الثانوية، وتقتصر مهامه على الجوانب الفنية كالتعامل مع أجهزة التخدير وتحضير غرف العمليات ومساعدة طبيب التخدير، وبحسب رئيس شعبة أطباء التخدير بمستشفى المواساة محمد البيطار يسمح للفني بأداء بعض إجراءات التخدير مثل قياس علامات المريض الحيوية كدرجة الحرارة والضغط والنبض وتجهيز الأدوات والأدوية، ويبقى في غرفة العمليات لمراقبة أجهزة قياس العلامات الحيوية، ولا يحق له القيام بأي إجراء تخديري إلا بوجود الطبيب، لكنه يؤدي هذه المهام في حالات استثنائية كالحروب والكوارث الطبيعية يقول الدكتور هلال.

فجوة جيلية في اختصاص طب التخدير و75 طبيبا فقط أصغر من 40 عاماً
 

وتمنع المادة الثانية من المرسوم التشريعي رقم 12 لعام 1970 المعروف باسم قانون مزاولة المهن الطبية فني التخدير من أداء أية إجراءات تخديرية بمفرده في الظروف الاعتيادية لكن نقص الأطباء يدفع المستشفيات الحكومية والخاصة للاعتماد عليهم وتغطية بعض مناوبات الأطباء، كما في حالة قضية الطفل جود سكر، وهو ما يؤكده فني تخدير لم يرغب بنشر اسمه حرصا على أمانه الوظيفي إذ يعمل بمستشفى حكومي بإحدى ضواحي دمشق يضم طبيبي تخدير فقط يداوم كل منهما يوما واحدا بينما يغطي الفنيون وعددهم تسعة بقية المناوبات ويخدرون حتى الحالات الطارئة، بالتأكيد يعرف أنه يخالف القانون كما يقول "لكنه مجبر، فنقص الكوادر المختصة لا يترك له بديلا".

 

تخصص طارد للأطباء

يضطر ماهر ساعاتي طبيب التخدير الوحيد في مستشفى البيروني لعلاج السرطان بدمشق للعمل في مستشفيات خاصة ساعيا لتأمين دخل مقبول ويقول: "رغم الحاجة لأطباء التخدير تبقى الرواتب متدنية في المشافي الحكومية فراتبي بإضافة المكافآت والحوافز مليون ليرة (83 دولارا) ولا يكفي لتوفير أبسط متطلبات المعيشة في ظل الغلاء المتصاعد"، وهي نفس شكوى محمد البيطار الذي لا يتعدى راتبه الأساسي 600 ألف ليرة (50 دولارا) وتضاف إليه مكافأة 160 ألف ليرة (13.3 دولارا) لا تصرف بانتظام فآخر مرة صرفت كانت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

ومحاولة منها لضبط هيكل أجور أطباء التخدير، أصدرت وزارة الصحة في يونيو/حزيران 2023 القرار رقم 5/ت الذي نصّ على فصل الوحدة التخديرية عن الوحدة الجراحية، يعرف فواز هلال الوحدة التخديرية على أنها طريقة لحساب أجر طبيب التخدير باعتبارأن عمله في كل عملية جراحية وحدة لها تسعيرة منفصلة وتختلف من عملية لأخرى، لكنه يصف القرار بأنه خيب طموحات الأطباء بعدما حددت الوحدة التخديرية بألفي ليرة، في حين طالب الأطباء ألا تقل عن 4 آلاف، إذ تبلغ الوحدة الجراحية (ما يتقاضاه الجراحون) خمسة آلاف.

ولبيان الفارق بين أجور أطباء التخدير والجراحين ضرب هلال مثلا بعملية "الفتق الإربي" المقدرة بـ 12 وحدة جراحية وتخديرية، يحصل مقابلها الجراح على 600 ألف ليرة بتسعيرة (5 آلاف ليرة للوحدة)، فيما يتقاضى طبيب التخدير 240 ألفا فقط (20 دولارا) ولا يحصل عليهم كاملين بسبب التفاف المشافي الخاصة على التطبيق الفعلي للقرار.

ويدفع تفاوت الأجور ومعه ضغط العمل نسبة كبيرة من خريجي الطب للعزوف عن تخصص التخدير، تقول لجين عبود، طبيبة مقيمة في السنة الثالثة لاختصاص التخدير وتبلغ مدة دراسته أربع سنوات في المستشفى الوطني الجامعي الحكومي، إن زملاءها استغربوا اختيارها لفرع من "الدرجة الثانية"، مقارنة بالجراحة أو النساء والتوليد، وتضيف لـ"العربي الجديد": "من أصل 25 طبيباً التحقوا بالسنة الأولى، لم يبقَ في القسم اليوم إلا 11 فقط "، مضيفة أن أطباء التخدير لا يحصلون على تقدير حقيقي علاوة على ضعف الحافز المادي فـ"المكافآت الحكومية تصرف كل خمسة أشهر، ولا تتجاوز 200 ألف ليرة (16.6 دولارا)".

تناوب عبود شهريا بين 10 إلى 12 مناوبة ويتطلب عملها إلماما كاملا بوظائف الجسم وأجهزته الحيوية إلا أنها تبذل مزيدا من الجهد لأنها تخطط لمغادرة البلاد بمجرد إتمام دراساتها العليا، وهي ليست استثناء فهذا النهج يؤكده البيطار بقوله: "منذ عام 2018 تخرج في مستشفى المواساة 35 طبيب تخدير مقيم بقي منهم أربعة فقط والباقي سافر للخارج".

ترافق معدل الهجرة الكبير مع العزوف عن التخصص وتزايد ضغط العمل، ظروف تجعل استمرار الوضع على ما هو عليه وتلافي تدهوره إنجازا لكنه لا يضمن ألا تتكرر مأساة جود الذي تكافح عائلته للحصول على تعويض مالي لم يقره القضاء بعد، بينما تحلم عائلة زين العابدين فقط بمثول قاتليه أمام القضاء.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية