أوشام الجدّات... ذاكرة أجساد النساء في مصر
عربي
منذ 8 ساعات
مشاركة

وسط خيوط الذاكرة الجسدية للنساء، تنسج الفنانة المصرية مروة عبد المنعم مشروعها الفني البحثي تحت عنوان "أوشام الجدّات: نقش على ذاكرة الجسد". وهو مشروع يتجاوز فكرة التوثيق أو الممارسة الفنية، إذ يصحبنا في رحلة أنثروبولوجية وإنسانية تستكشف الجسد الأنثوي بوصفه موقعاً للذاكرة والتجربة والوصم والتمكين.
أوشام الجدّات هو أحد مشاريع برنامج "فنون من أجل الصحة والحقوق الجنسية والإنجابية" الذي تقدمه مؤسسة دوار للفنون في القاهرة، ويهدف إلى توثيق وتحليل الرموز الجسدية التي تحملها النساء، وتحديداً الوشوم، بوصفها جزءاً من سردية الذاكرة النسوية في مصر. هذه العلامات الجسدية التي كانت يوماً ما رموزاً للزينة أو الانتماء القبلي، تحولت بفعل الزمن ونظرة المجتمع إلى رموز معقدة تدمج بين الجمال والوصمة.
ينطلق المشروع من حكايات النساء أنفسهن، من دون وسطاء أو فلاتر، ويعيد قراءة هذه العلامات في ضوء السلطة والتقاليد والدين، ليكشف كيف تتقاطع هذه العوامل جميعاً في تشكيل تجربة المرأة الجسدية والاجتماعية. يتعامل المشروع مع الوشم باعتباره رمزاً بصرياً يشير أحياناً إلى الوصم، أو قد يشير أيضاً إلى الأفكار النمطية السلبية عن النساء. تترجم هذه الحكايات إلى ثلاثة مخرجات أساسية، أول هذه المخرجات هو كتاب إثنوغرافي يوثق القصص والرموز المرتبطة بالوشوم؛ ودفتر تدوين بخط يد المشارِكات، يفتح مساحة شخصية وآمنة لسرد التجارب؛ ولوحات ورسوم مستوحاة من هذه الحكايات، تعيد إلى الجسد صوته وصورته. وستُعرض هذه المخرجات الثلاثة أمام الجمهور العام في مساحة فلك للفنون في القاهرة اليوم الاثنين.
كل وشم، وكل ندبة، وكل تغير مرّ به جسد المرأة، تصبح هنا مادة للحكي والرسم والتأمل. الورش التي تنظمها عبد المنعم تتضمن جلسات حكي ورسم جماعية، تُشكّل مساحات آمنة تشارك فيها النساء لحظات بلوغ، وأمومة، وألم أو حب، وأحياناً جراحاً عميقة تركها المجتمع على الجسد.
المشروع لا يكتفي بسرد التجارب، بل يسعى إلى خلق أرشيف نسوي فني ووجداني لتوثيق ما يُعتبر عادة من المسكوت عنه. وهذا ما تجلّى في الجلسات التي جمعت بين فنانين وباحثين في الأنثروبولوجيا، إذ نوقش العديد من الإشكاليات والأسئلة العميقة، مثل الكيفية التي يتحول بها الجسد إلى نص ثقافي، ومن يملك حق قراءة آثار الجسد وتفسيرها؟ وهل يمكن اعتبار الندوب وعلامات الولادة أو آثار العمليات رموزاً ثقافية؟ وكيف يختلف سرد الجسد بين الريف والمدينة؟ في هذه الجلسات الحميمية، تسكب المشاركات أفكارهن على الورق، أو على هيئة حكي موثق بالفيديو أو الصوت. تتحدث الأجساد هنا بما لم تستطع الكلمات أن تنطق به سابقاً. هذه الورش تمثل تحوّلاً في وظيفة الفن من التعبير الجمالي إلى وسيلة للشفاء والتوثيق والتمكين.
يتقاطع مشروع أوشام الجدّات منهجاً ومحتوىً مع عدد من المشاريع الأخرى التي نفذها فنانون ونشطاء ثقافيون حول العالم. بين هذه المشاريع Body Mapping في جنوب أفريقيا، الذي استخدم الرسم لتوثيق تجارب النساء مع مرض الإيدز، أو مشروع Scar Stories في كندا، الذي وثق تجارب النساء مع الجراحات والولادة والنجاة من السرطان. لكن أوشام الجدّات يضيف بُعداً محلياً مهماً، فقراءة الجسد من خلال العدسة الثقافية والاجتماعية المصرية يتيح لنا فهم واكتشاف تداخل عدد من المفاهيم المرتبطة بالثقافة المصرية والعربية، مثل العيب، والشرف، والحُرمة، والتحرر، في رسم معالم العلاقة بين المرأة وجسدها.

تأتي أهمية المشروع من كونه يعيد الاعتبار للجسد بوصفه كياناً يحمل الذاكرة والتجربة، ليس بوصفه موضوع رقابة أو تجميلاً فقط. لأن النساء، خصوصاً من الأجيال الأكبر سناً، نادراً ما يُمنحن المساحة لسرد تجاربهن الجسدية في مجتمع لا يرى في الجسد إلا موضعاً للعيب أو الواجب. المشروع يعيد للنساء حق امتلاك سردياتهن الخاصة، ويخلق لغة بديلة تحترم التعدد والتجربة والاختلاف، ويُذكّرنا جميعاً بأن الوشم ليس مجرد نقش على الجلد، بل أثر في الذاكرة، وصرخة وجود.

يدعونا مشروع أوشام الجدّات إلى إعادة اكتشاف الذات من خلال الحكاية والفن، ويفتح الباب أمام النساء ليتحدثن عن أجسادهن بصدق وحرية. في الوقت الذي يُختزل فيه الجسد في معايير جمال سطحية أو أحكام أخلاقية، يقدّم هذا المشروع نموذجاً مقاوماً وإنسانياً، يُعلّمنا أن الإصغاء إلى الجسد والإيمان بحكاياته هو أول خطوة نحو الشفاء والتحرر.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية