
في دورته السادسة التي تنطلق في الثاني من يوليو/تموز 2025، يواصل مهرجان عمّان السينمائي الدولي – أوّل فيلم، ترسيخ مكانته بوصفه منصة من المنصات السينمائية القليلة في المنطقة التي تخصصت في اكتشاف الأصوات الأولى، والاحتفاء بأول تجارب صنّاع الأفلام، لكنه في الوقت نفسه لا يتوقف عن تطوير بنيته والانفتاح على تحولات الصناعة البصرية عربياً ودولياً.
دورة هذا العام تحمل توسّعاً واضحاً في الحجم والمضامين، لكنها في الجوهر تعكس التزاماً واعياً بفلسفة تأسيسية تقوم على دعم البداية السينمائية، وذلك تحت شعار هذا "عالم خارج النص" لهذه الدورة، في محاولة للاحتفاء بالأعمال التي تكسر القوالب الجاهزة وتستند إلى التجربة الحية واللحظات الإنسانية غير المتوقعة.
في سعيه الدائم إلى التطوير من دون المساس بجوهر فلسفته، أجرى المهرجان هذا العام تعديلاً مهماً على بنية الجوائز، من خلال إدخال لجنة تحكيم خاصة لفئة الأفلام غير العربية، التي كانت تعتمد سابقاً على تصويت الجمهور فقط، بحسب تصريحات مديرة المهرجان، ندى دوماني، لـ"العربي الجديد" عن الخلفية التنظيمية لهذا القرار: "نحن لم نحول جائزة الأفلام غير العربية من جائزة الجمهور إلى جائزة لجنة التحكيم، بل أضفنا جائزة لجنة التحكيم إلى جائزة الجمهور. كانت لدينا دائماً هذه الفئة إلى جانب الأقسام العربية الثلاثة، وقسم خارج المنافسة".
أضيف هذا العام قسم خاص للسينما الأيرلندية بمناسبة استضافة أيرلندا أوّل ضيف شرف في تاريخ المهرجان، في مبادرة تعكس، بحسب دوماني، تقاطع التجربتين العربية والأيرلندية في مسائل الهوية والصمود.
وفيما تتوسع المنافسة الدولية بهذه الإضافة، يبقى المهرجان متمسكاً بهويته الأساسية المتمثلة في تبني فكرة "أول فيلم"، التي يعتبرها كثيرون واحدة من نقاط تفرّده في خريطة المهرجانات العربية. تؤكد دوماني: "بعد ست سنوات، أؤكد أننا لم نواجه أي صعوبة في إيجاد أفلام أولى بمستوى عالٍ من الجودة. أحياناً، نرى في مهرجانات كبرى أن الأعمال الأولى تنافس أعمال مخرجين مخضرمين وتتفوق عليها. نحن لا نحدد فقط أول فيلم للمخرج، بل يشمل العمل الأول للمؤلف أو الممثل أو حتى المونتير في الوثائقيات".
ترى أن ما يمنحه هذا الاختيار للمهرجان ليس مجرد طابع تخصصي، بل أيضاً طموحٌ فنيٌّ مشروعٌ: "ليس الهدف فقط الاكتشاف، بل التمتع أيضاً بأعمال تمتاز بالجودة العالية. السؤال الأهم: هل الأعمال الأولى قادرة على مجاراة أعمال المحترفين؟ والجواب واضح: نعم".
وسط النقاشات المتزايدة حول تأثير منصات العرض الرقمية على بنية الإنتاج السينمائي، ينفي المهرجان وجود أي طغيان لهذا النمط على برمجته سواء في المسابقات أو البرامج المهنية. توضّح دوماني هذا التوجه الحازم بالقول: "كل الأعمال المختارة هذا العام تنتمي إلى السينما الكلاسيكية شكلاً ومضموناً، حتى المشاريع المختارة في أيام عمّان لصناع الأفلام جرى اختيارها على أسس سينمائية بحتة".
أما في ما يخص البعد الثقافي المرتبط بتوسيع حضور لجنة التحكيم الدولية، في زمن تزداد فيه الصراعات السردية والهوياتية عربياً، فإن دوماني تفصل بين القرارات التنظيمية والبنية الثقافية الأعمق التي يعمل المهرجان على معالجتها عبر شعاراته المتغيرة سنوياً: "إضافة لجنة التحكيم قرار تنظيمي، لكن بالتأكيد هناك بُعد ثقافي نواكبه من خلال شعاراتنا السنوية. العام الماضي حملنا شعار 'احكيلي'، استجابة لما يحدث في فلسطين وغزة والسودان واليمن. هذا العام اخترنا شعار 'عالم خارج النص' تعبيراً عن تحولات أعمق تشهدها المنطقة".
ومن المبادرات الجديدة التي أطلقها المهرجان هذا العام أيضاً، توفير عروض بلغة الإشارة توازياً مع الترجمة إلى العربية، في خطوة تعزز الإتاحة وتفتح أبواب صالات العرض لفئات أوسع من الجمهور، بما في ذلك الصم وضعاف السمع، داخل عمّان وفي المحافظات.
وفي موازاة المسابقات السينمائية التقليدية، وسع برنامج أيام عمّان لصنّاع الأفلام نشاطه هذا العام بإضافة مبادرة The Spark Series المخصصة لمشاريع مسلسلات الويب، في استجابة واعية لتحولات أنماط السرد البصري في العصر الرقمي. يوضح مدير البرنامج، بسام الأسعد، خلفيات هذا الخيار: "جاءت فكرة The Spark Series بمبادرة من مورييل أبو الروس، المنسقة الفنية للبرنامج، وهي صانعة أفلام بخبرة واسعة في هذا المجال. بدعم إدارة المهرجان، اخترنا احتضان هذا الشكل السردي لقدرته على التعبير عن قصص معاصرة بجرأة ومرونة، وليكون مساحة لكسر القوالب التقليدية".
يؤكد الأسعد أن هذا التوجه لا يعني التفريط بالمعايير الفنية الصارمة التي يطبقها المهرجان على سائر برامجه: "ننظر إلى مسلسلات الويب بوصفها مساحة سردية أصيلة، وليست مجرد محتوى تجاري. كثير من المبدعين يستخدمونها لاختبار أفكارهم، وبناء عوالم مرنة تصل إلى جمهور واسع. وجود مورييل أبو الروس أتاح لنا ضبط البرنامج ليوازن بين الإبداع والفعالية الرقمية، ولنوفر بيئة نقدية وفنية جادة للمشاريع المختارة".
أما على صعيد آليات الاختيار والتقييم في هذا القسم الجديد، فيوضح الأسعد أن المعايير بقيت تراعي الدقة المعتمدة في كل أقسام المهرجان: "المشاريع قُيّمت وفق قوة الفكرة وجودة التنفيذ وإمكانية التطوير المستدام. وستحظى بمساحة مهنية ضمن AFID تشمل جلسات حوارية وعروضاً للحلقات التجريبية أمام جهات الإنتاج والتوزيع في العالم العربي".
على مستوى الحجم والمحتوى، تعكس الدورة السادسة هذا العام نمواً واضحاً مقارنة بالدورة الخامسة، إذ ارتفع عدد الأفلام المشاركة إلى أكثر من 60 فيلماً من 23 دولة، مقابل 51 فيلماً من 28 دولة العام الماضي. وتزايدت العروض الأولى عربياً وعالمياً، إذ تضم الدورة الحالية 23 عرضاً عربياً أول بينها 16 عرضاً عالمياً أول، إضافة إلى الحضور الكثيف للأفلام الأردنية التي وصلت هذا العام إلى عشرة أفلام في كل الأقسام. وفي سابقة إنسانية لافتة، يقدم المهرجان هذا العام مجموعة أفلام من قلب غزة تُعرض لأول مرة، في استجابة مباشرة للكارثة المتواصلة في القطاع.
بهذا التوازن بين الهوية الصلبة والتطوير المنهجي، يواصل مهرجان عمّان السينمائي الدولي – أوّل فيلم بناء مكانته واحداً من المهرجانات القليلة في العالم العربي التي تنجح في المزج بين التخصص والانفتاح، بين احتضان التجارب الأولى واحترام المعايير الفنية، بين صوت الهامش وتجارب المركز السينمائي. في كل دورة جديدة، يثبت المهرجان أنه أكثر من مجرد منصة عروض، بل مشروع ثقافي متجدد يستجيب لتحولات الواقع السينمائي والإنساني معاً.
