هل صنعنا إيرانَ عدوّاً؟
عربي
منذ 8 ساعات
مشاركة

في زحمة التحوّلات الجيوسياسية المتسارعة، وما اقتضته من مواجهة عسكرية مفتوحة بين إيران وإسرائيل، حربٌ قد تُغيّر موازين القوى، وربّما تُعيد تشكيل الإقليم، يفرض سؤالٌ نفسه بقوة على الوعي العربي: من هو العدو الحقيقي؟ المشروع الإيراني أم المشروع الصهيوني؟ سؤال يتقاطع فيه الحاضر مع التاريخ، وتتصارع فيه المشاعر مع الحسابات السياسية، لتتكشّف أمامنا مفارقةٌ مؤلمةٌ: ربّما نحن مَن صنعنا عداوتنا مع إيران، بينما تجاهلنا عداءً بنيوياً لم يتوقّف مع إسرائيل لحظةً واحدة.
لم تكن إسرائيل بحاجةٍ إلى سببٍ لتكون عدواً. قام مشروعها على نفي وجودنا واحتلال أرضنا وطمس هُويَّتنا. منذ نكبة 1948، مارست تهجيراً ممنهجاً، وقتلاً منظّماً، وتوسّعاً مدروساً، ضدّ الفلسطينيين والسوريين والمصريين والأردنيين... عداؤها لنا جوهري لا ظرفي. في المقابل، لم تبنِ إيران (رغم خطابها الطائفي وتدخّلاتها في شؤون المنطقة) دولتها على أنقاض شعبٍ عربي، ولم يكن مشروعها السياسي قائماً على تصفية وجودنا، بل حملت ثورتها عام 1979، التي خرجت من المساجد والحسينيات، دعماً شعبياً عارماً، رغم انقلابها لاحقاً على حلفائها من العلمانيين، كما حصل في بعض الثورات العربية. ولم ينسَ الإيرانيون إطاحة الولايات المتحدة في 1953 حكومة محمّد مصدّق، بعد تأميمه نفط إيران، فجاءت الثورة الإسلامية ردّة فعل تاريخية على الهيمنة الغربية، لكنّ صدمة أنظمة عربية من نبرة الثورة الراديكالية، دفعتها إلى التكتّل ضدّها مبكّراً. تقاطع الخوف العربي مع المصالح الأميركية، فحُوِّلت إيران هدفاً مباشراً للشيطنة والعزل.

لم تكن إسرائيل بحاجة إلى سبب لتكون عدوّنا، عداؤها لنا جوهري لا ظرفي، يقوم على احتلال أرضنا ونفي وجودنا

وعندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية، باجتياح صدّام حسين أراضيَ إيرانية، ضخّت دول عربية عشرات المليارات لدعم الرئيس العراقي في حينه، وقدّمت له (بضوء أخضر غربي) الدعم الاستخباري واللوجستي والسلاح. ساهم هذا الدعم في إطالة الحرب (1980- 1988)، وتحويلها حربَ استنزاف للثورة الوليدة. ... ليست هذه السطور بصدد الدفاع عن إيران، بل هو توصيف واقعٍ، مفاده بأننا (نحن العرب) اخترنا المواجهة الشاملة، لا الاحتواء ولا الحوار. إنها خصومةٌ اختلقناها وتعاملنا مع نتائجها كأنّها قدر. حتى بعد نهاية الحرب، واستقرار النظام الإيراني، لم نمنح أنفسنا فرصةً لمراجعة نهجنا العدائي، حوّلنا خوفنا قطيعة، ثمّ خصومةً دائمةً. وعندما تمدّدت إيران في لبنان وسورية واليمن، تعاملنا مع الأمر دليلاً على نيّاتها التوسّعية، متجاهلين أن الفراغ العربي سبق التدخّل الإيراني، وأننا من تركنا شاغراً، حين تخلّينا عن بلدان شقيقة.
نعم، تحتل إيران الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى)، لكن احتلالها كان في عام 1971 على يد الشاه، حليف الغرب وواشنطن، وورثت الجمهورية الإسلامية هذا الاحتلال، كما ورثنا نحن "سايكس بيكو"، وعزّزته في نزاعنا معها "موقفاً سيادياً"، لكنّها لم تشنّ حرباً جديدةً، ولم توسّع السيطرة. هو احتلالٌ مرفوض عربياً، لكنّه لا يشبه الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني القائم على الطرد والتوسّع والتطهير العرقي، إنه نزاع جيوسياسي قديم، تحوّل مبرّراً لعداء مفتوح لا نهاية له. لن نُجمّل الصورة: إيران تتحمّل مسؤوليةً أخلاقيةً وقانونيةً في ملفّات دامية في سورية واليمن ولبنان، وقد دعمت جماعاتٍ مسلّحةً ارتكبت مجازرَ، ورعتْ مشاريعَ طائفية، لكنّ كثيراً من الإيرانيين أيضاً يرون في العرب حلفاءَ واشنطن منذ حرب الخليج الأولى، ويتذكّرون كيف ساهموا في حصارهم، والتضييق على "ربيعهم الإيراني". لعلّ نظام حافظ الأسد وحده من وقف إلى جانب طهران في تلك المرحلة، فجاء ردّ "الجميل" (لاحقاً) لابنه بشّار وقوفاً معه في مواجهة شعبه، مصحوباً بالانتقام الطائفي. لا نبرّر بذلك شيئاً، لكنّنا نسعى إلى فتح نافذة للفهم، وربّما للمراجعة. فقد نحمل والشعب الإيراني في دواخلنا جرحاً متبادلاً: جرح الخذلان والخطاب المتشنّج وسوء الفهم المتراكم.
في الوقت الذي حاصرنا فيه إيران سياسياً، وجرّمنا الحوار معها، فتحت عواصم عربية أبوابها لتُطبّع مع إسرائيل، التي لا تكتفي بالاحتلال، بل تشرعنه، وتسوّق نفسها شريكاً إقليمياً للأمن، وتحاول فرض معادلة "أنا عدوّ عدوّك"، فصدّقها بعضنا صديقاً. لكن السؤال الأخلاقي والسياسي: لماذا أصبح الحوار مع إيران خيانةً، بينما صارت الشراكة مع إسرائيل واقعيةً سياسيةً؟
مع الرئيس إبراهيم رئيسي، راجعت إيران سياستها في المنطقة، وفي 2023، بدأت المصالحة السعودية - الإيرانية (بوساطة صينية)، فتراجعت الهجمات الحوثية على دول خليجية، وفُتِحت قنوات التفاهم. ودعا الرئيس الإيراني (المُنتخَب في حينه) مسعود بزشكيان أبناءَ الجغرافية الواحدة إلى التكاتف من أجل حياة طيّبة ومن أجل "هيكلة منطقةٍ قويةٍ تعتمد على قوّة المنطق وليس منطق القوّة" ("معاً لبناء منطقةٍ قويّةٍ ومزدهرة"، العربي الجديد، 10/7/2024). لكنّه مسار لا يكتمل، لأن هناك في بعض الدوائر العربية مقاومة شرسة لأيّ انفتاح على طهران، وهناك تحفّظات أميركية وإسرائيلية، ورهان أعمى على واشنطن وتل أبيب "ضامنين" للاستقرار. هناك من يرى في أيّ تقارب مع إيران تهديداً لشرعية النظام العربي التقليدي، حتى لو كان الثمن الانفجار الشامل.

تظلّ إيران جاراً يمكن أن يُحتوى، وأن تُعاد صياغة العلاقة معه. أمّا إسرائيل، فهي مشروع استيطاني اقتلاعي إحلالي، لا يتوقّف إلا بانتهاء الضحيّة

في هذه الجولة من الحرب بين إسرائيل وإيران، يتذكّر بعضنا فجأةً الشعب الإيراني، الواقع تحت ظلم الملالي، فينتظر من واشنطن وتل أبيب تغيير النظام في إيران. لكن تخيّل أن يدعو حافظ بشّار الأسد، ابن الرئيس الفارّ، السوريين إلى الانقلاب على الرئيس الانتقالي أحمد الشرع. رغم اعتراضات وانتقادات وتحفّظات يوجّهها سوريون إلى نهج الشرع، فإن كثيراً منهم سيعتبرون دعوة الأسد (جونيور) وقاحةً لا نظير لها. كذلك، سينظر كثيرٌ من الإيرانيين للدعوة التي وجّهها (في ذروة العدوان الإسرائيلي يوم الجمعة الماضي) رضا بهلوي (الثاني)، ابن الشاه المخلوع، إلى الجيش الإيراني للانقلاب على النظام بدعوى أنه جرّ إيران إلى الحرب مع إسرائيل. صحيح أن النظام الإيراني الحالي يتعامل مع فلسطين من منظور براغماتي، ليس أميناً دائماً لأيديولوجيا الثورة، لكنّه على الأقلّ لم يخضع لإملاءات المصالح الغربية، وبنى الجمهورية الإسلامية بقدراتها الذاتية رغم الحصار، من دون أن تدفعه "البراغماتية" إلى طرق باب التطبيع مع إسرائيل، أو إلى بيع البلاد للاستثمارات الغربية. أمّا ديمقراطية إيران المعيبة، فهي لا تقلّ تراجعاً عن ديمقراطية كثير من الأنظمة العربية، التي فرّطت بفلسطين والحرّية معاً.
ليست إيران بريئةً من الدم العربي، كما أننا لسنا أبرياء من دمٍ إيراني. لكن إيران تظلّ جاراً يمكن أن يُحتوى، وأن تُعاد صياغة العلاقة معه. أمّا إسرائيل، فهي مشروع استيطاني اقتلاعي إحلالي، لا يتوقّف إلا بانتهاء الضحيّة. وقبل أن نتمنّى سقوط إيران، وانكسارها أمام أميركا وإسرائيل، لنسأل: ماذا ستكون حالنا بعدها؟ هل تكفّ إسرائيل عن أن تكون عدوّنا، أم أنها تتحوّل عدواً أقوى وأشدَّ جرأة بعد زوال آخر حاجز إقليمي أمامها؟
يبدو أننا صنعنا من إيران عدواً، وتناسينا من نحن له أعداء في جوهر مشروعه. فهل ما زال الوقت متاحاً للمراجعة؟ وهل نمتلك شجاعة أن نعيد ترتيب قائمة أعدائنا كما يجب؟

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية