
في عامه الخامس والأربعين من مسيرته الفنية، غيّب الموت الفنان الأردني بكر قباني (1941 ــ 2025)، الذي خلّف وراءه إرثاً فنياً ضخماً تجاوز حدود التمثيل والإخراج، ليُكرَّس مدرسةً فنيةً قائمة بذاتها في الأداء المسرحي والدرامي والإنتاج الفني المتكامل.
آمن قباني بأن الفنان هو صاحب "مفتاح الخيال"، يمتلك القدرة على تحويل التجربة اليومية إلى عمل فني يحمل قيمة إنسانية ورسالة فكرية. ورأى أن هذا التحول لا يتحقق إلا بالوعي العميق والارتباط العضوي بقضايا المجتمع وتطوراته. فالفن، عنده، وسيلة للارتقاء بالسلوك الإنساني وتعزيز قيم الحرية والجمال، وبناء وعي جمعي ينهض بالإنسان العربي.
ولد بكر قباني، في مدينة القدس في فلسطين عام 1941، حيث نشأ في أزقتها وحاراتها القديمة، وتفتّحت مواهبه الفنية منذ سنواته الأولى في المدرسة. هناك، كان يتقاسم وقت الدراسة مع الرسم والعزف على الآلات النفخية كالترامبيت والسكسفون، كما أسّس مع إخوته فرقة موسيقية مدرسية حملت اسم "خماسي قباني"، وشارك في عروض مسرحية منذ سن الحادية عشرة.
لم تكن الطفولة سوى بداية مسيرة فنية متشعبة، جمع فيها قباني بين الرسم والموسيقى والتمثيل. إحدى لحظاته المبكرة
بعد إنهاء المرحلة الثانوية في القدس، غادر قباني إلى الكويت، حيث عمل مدرسًا للموسيقى. ومن الكويت انتقل إلى عمّان.
انطلقت مسيرته من خشبة المسرح، التي اعتبرها المنبر الأول والأهم لصقل أدوات الممثل. كان المسرح عنده مساحة حيّة تختبر فيها الطاقة التفاعلية بين الفنان والجمهور، ما يمنح كل عرض طابعاً متجدداً. وقدّم على مدى سنوات طويلة أعمالاً بارزة شكّلت علامات فارقة في تاريخ المسرح الأردني والعربي، من أبرزها: "عريس لبنت السلطان"، "حفلة على الخازوق"، "مأساة المهلهل"، "بيت بيرناردا ألبا"، "قهوة مرة"، "الإسكافية العجيبة"، و"رحلة الأحلام"، وغيرها من العروض المتنوعة بين الدراما والتاريخ والكوميديا السوداء.
امتدّ حضوره إلى التلفزيون والإذاعة، حيث تألق في عشرات المسلسلات العربية والخليجية، مبرزاً إتقانه للهجة البدوية واللغة العربية الفصحى، ومشاركاً في أعمال ناطقة بالإنكليزية، مستفيداً من ثقافته المتعددة. وكتب أو شارك في بطولات العديد من الأعمال مثل "القدس أولى القبلتين"، و"موسم الفرح"، و"الشيخ الإمام"، و"الحشاشون"، و"رجال في الظلام"، إلى جانب برامج ومسلسلات إذاعية ووثائقيات سياسية وتاريخية.
كان قباني يرى أن جودة العمل الفني لا تتحقق إلا بوجود مخرج ذي حس قيادي وذائقة رفيعة، ورفض بشدة تدخل المنتجين في اختيار الممثلين، معتبراً ذلك عبثاً يضر بالسوية الفنية للنص والعمل. كما خاض معركة نقابية طويلة دفاعاً عن الفنانين في نقابة الفنانين الأردنيين، مطالباً بتمكين الفنانين لا بمعاقبتهم، ومشجعاً على قيادة نقابية متفرغة ومهنية.
تميّز قباني بتعدد مواهبه، فإلى جانب التمثيل كتب وأخرج وأشرف على الموسيقى التصويرية والدوبلاج للأطفال، وشارك في عروض موسيقية مثل مغناة "صمود السنابل" وأوبريت "حنين العودة"، كما ألقى محاضرات في فنون الكتابة والإلقاء، وشارك في معارض تشكيلية ونشاطات ثقافية محلية وعربية. وقد كان حضوره في أوبريت "وطني.. شمس"، الذي أُقيم في مادبا، تتويجاً لمسيرته فناناً وطنياً ملتزماً.
رأى قباني أن أزمة الدراما الأردنية لا تكمن في المواهب أو النصوص فحسب، بل في ضعف الإنتاج وغياب استراتيجية درامية تواكب الحراك الفني العربي، داعياً إلى تحالف جدي بين القطاعين العام والخاص لدعم الفن الأردني.
