
لم يعد السعر الواحد للسلعة أو الخدمة هو القاعدة في أسواق قطاع غزة، بل بات من المعتاد أن تجد لكل سلعة سعرين مختلفين، أحدهما للدفع النقدي (الكاش)، والآخر للدفع الإلكتروني، في واقع جديد فرضته أزمة السيولة الحادة، وجعل من الشراء تحدياً يومياً للمواطنين، حيث يضطر البعض لدفع ما يزيد عن 40% إضافية عند استخدام وسائل الدفع الإلكتروني.
وتعود جذور هذه الظاهرة إلى تصاعد أزمة النقد في القطاع خلال الحرب الجارية والتي عطلت حركة الاقتصاد وفاقمت من شح السيولة لدى المواطنين والتجار على حد سواء، ومع غياب حلول فعلية من الجهات المختصة، وجد المواطن نفسه عالقاً وسط تفاقم الأزمات.
وباتت ظاهرة "السعرين" مظهراً يومياً في الأسواق، حتى إنها أثرت على سلوك البيع والشراء، وقسمت التجار إلى فئتين، من يبيع نقداً فقط، ومن يكتفي بالدفع الإلكتروني، والمفارقة أن هذه الفجوة تظهر حتى بين محال متجاورة تبيع ذات البضائع، لكن بأسعار متباينة كلياً وفق وسيلة الدفع.
المواطن خالد عودة، النازح من بيت لاهيا شمالي القطاع إلى غربي مدينة غزة، يروي تجربته اليومية في شراء السلع: "نذهب لشراء أي سلعة فنجد سعرين، سعر الكاش وهو أرخص بكثير من الدفع الإلكتروني، أصبحت هذه الظاهرة شائعة في معظم السلع، وحتى في نفس الشارع تجد محلاً يبيع بالكاش وآخر فقط بالإلكتروني، رغم أنهما يبيعان المنتج نفسه". ويشير إلى أن الجميع يحبّذ التعامل بالدفع الإلكتروني بسبب أزمة السيولة وارتفاع نسبة العمولة للحصول على الكاش وكذلك بسبب اهتراء العملات الورقية ورفض الباعة لها غالباً.
وهو ما يقوله أيضاً بائع الخضراوات في سوق مخيم النصيرات وسط القطاع، محمد الحاج، الذي يذكر أن الأمر لا يقتصر على السلع الكمالية، موضحاً: "نشتري الخضراوات من الموردين بسعرين أيضاً، كيلوغرام الطماطم مثلاً نشتريه بالكاش بـ35 شيكل، أما بالدفع الإلكتروني فيصبح 50 شيكل، نضطر لرفع السعر على الزبائن، لأنّ المورّد يتعامل وفق نظامين". ويقول الحاج لـ"العربي الجديد" إن "أغلب المزارعين والتجار يفضلون الكاش، في ظل غياب السيولة وتكلفة التكييش العالية التي تصل إلى 40%، لكن حتى القبول بالسيولة بحد ذاته مشكلة، لأن العملة تالفة ومهترئة، ولذلك أحبّذ البيع بالدفع الإلكتروني لأنه أسهل، في ظل غياب العملات الورقية الجيدة في الأسواق".
وترفض سلطات الاحتلال منذ بداية الحرب على غزة السماح بإدخال أي كميات من النقد إلى أسواق القطاع، ما فاقم أزمة السيولة بشكل غير مسبوق، وفي المقابل سمحت بخروج مبالغ مالية كبيرة عبر المسافرين والتجار، الأمر الذي ساهم في تعميق أزمة "التكييش" داخل السوق المحلي. هذه المفارقة زادت من حدة الضغط على المواطنين والتجار، لتصل أزمة الحصول على النقد إلى واحدة من أصعب مراحلها، وسط غياب أي حلول جذرية في الأفق.
ويذكر المختص في الشأن الاقتصادي عماد لبد، أن ظاهرة الانقسام السعري ظهرت بعد الحرب نتيجة تفاقم أزمة السيولة، قائلا إن غياب النقد وارتفاع نسب التكييش إلى أكثر من 40% أدى لخلق واقع اقتصادي مشوه، والحل الجذري يكمن في تدخل سلطة النقد وإلزام الاحتلال بإدخال السيولة حسب الاتفاقيات، وسحب النقود التالفة من السوق.
ويحذّر لبد في حديث إلى "العربي الجديد" من تداعيات هذا الوضع، قائلاً: "ما يحدث يقزم العدالة الاقتصادية وينهك المواطن الغزي، الأسعار تضاعفت في بعض السلع بنسبة 1000%، وسط معدلات فقر تتجاوز 90% وبطالة وصلت لـ83%، الغزيون لم يعودوا قادرين على الصمود في وجه هذا الغلاء".
يضيف: "يعيش الغزيون حالة اقتصادية شديدة القسوة، بين سعرين لكل سلعة وأزمة سيولة خانقة وتضخم جنوني في الأسعار، يتزامن مع تآكل القدرة الشرائية وانعدام الخيارات، وهو ما يؤكد على ضرورة التدخل الفعلي لمعالجة الأزمة المالية التي تهدد ما تبقى من استقرار اقتصادي في القطاع المدمّر".
يتابع: "استمرار هذا الواقع الاقتصادي المشوّه لا يهدد فقط النشاط التجاري بل ينعكس بشكل مباشر على الاستقرار الاجتماعي والنفسي للأسر الغزية، وكذلك فإن الاقتصاد في غزة لم يعد يعاني فقط من أرقام ومؤشرات بل من أزمة ثقة وانهيار شامل في قدرة الناس على التحمل مما يجعل أي تأخير في التدخل الاقتصادي والمالي بمثابة إشعال فتيل لانفجار اجتماعي مقبل".

أخبار ذات صلة.

