
حربان إقليميتان أحد طرفي كل منهما قوات الاحتلال الإسرائيلي، يتوقّف إطفاء نارهما على ضمانات تأتي أو لا تأتي من الولايات المتحدة. أولى الحربين في قطاع غزّة، إذ يطالب الغزّيون بضمانة لوقف حرب الإبادة عليهم، وما يبقى خارج صندوق الضمانة يدخل في إطار التفاصيل القابلة للبحث والنقاش. ومع ذلك، لا يتلقّى الغزّيون وعداً ضامناً، حتى كأنه سحابة صيف. والحرب الثانية في لبنان، حيث غابت الضمانة الأميركية الراعية لوقف إطلاق النار في اليوم التالي للتوافق على وقف الأعمال القتالية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ومذ ذاك، يتساءل اللبنانيون عن الضامن/ الغائب، الذي غدا وعده شبيهاً بحديث خرافة الشهير في مأثورات التراث العربي.
لم تنزل الضمانة الأميركية المفترضة بعد اتفاق نوفمبر برداً وسلاماً على اللبنانيين، على خلاف المأمول والموعود. راحت الآلة العسكرية الإسرائيلية تضرب في الجنوب وفي البقاع، وما بينهما من منزلة، ومنازل في الضاحية الجنوبية لبيروت، حتى باتت القناعة اللبنانية مستقرّةً عند أن المُراد الإسرائيلي لا يخرج من سياق استخدام القوة القاهرة بغرض الإتيان بلبنان مخفوراً إلى معاهدة سلام تعلو فيها الشروط الإسرائيلية على كلّ معلم وملمح، وفي الطريق إلى هذا المبتغى ترفع تلّ أبيب شعار نزع سلاح المقاومة اللبنانية مدخلاً إلى وقف اعتداءاتها وانسحابها من الأراضي اللبنانية المحتلّة.
وعلى ذلك، يتقدّم موضوع السلاح على ما سواه، وتليه معاهدة السلام، وكلاهما يشكّلان مادّةَ إغراء لخطاب سياسي تتبنّاه بعض الأطراف المحلّية، وفي حال ذهب الإفتراض إلى توافق وطني لبناني حول تعجيل الصيغة القائمة على حصرية السلاح بالدولة اللبنانية، سيطلّ سؤالان خطيران: من يضمن انسحاب جيش الاحتلال من الأراضي اللبنانية؟ ومن يضمن وقف الاعتداءات الإسرائيلية، التي لم يعرف لبنان وقفاً لها طوال الأشهر الماضية؟... لا طرفَ لبنانياً، من دعاة التعجيل بنزع السلاح وسحبه، يجيب عن السؤالَين، وانعدام الإجابات يصوغ مساحة الافتراق السياسي بين المستعجلين وكاظمي الغيظ، وحين يُسأل كاظمٌ مُستعجِل: هل في الجعبة أو تحت الإبط ما يقترب من ضمانات الانسحاب وكبح الهجمات أو ما يعادلهما؟... يتوارى الكلام في غياهب الصمت وعتمة السكوت. هذا الصمت وذاك السكوت يدفعان إلى ترسيخ القناعة بانتفاء ضمانات ما بعد تنظيم السلاح أو حصره، فلا تقليد تلّ أبيب يؤشّر إلى أنها مشت (ولو مرّةً) في خطّ الاستقامة والالتزام، ولا نهج واشنطن حيال القضية الفلسطينية ومتفرّعاتها عُرِفت عنه تأديةٌ لميثاق وكفالة. وذلك كلّه يأخذ الحديث إلى تجربة لبنان مع الثنائية الأميركية ـ الإسرائيلية، وعنوانها اتفاق 17 أيار (1983)، المعروف أن لبنان ذهب إلى التوقيع عليه برعاية أميركية، بعد سنة من الاجتياح الإسرائيلي، وورد في المادّة الثالثة منه "تتعهّد إسرائيل بأن تسحب قواتها المسلّحة من لبنان وفقاً لملحق هذا الاتفاق"، وجاء في الملحق: "خلال مهلة تتراوح بين ثمانية أسابيع واثني عشر أسبوعاً من سريان مفعول هذا الاتفاق، تكون القوات الإسرائيلية كافّة قد انسحبت من لبنان، انسجاماً مع هدف لبنان الرامي إلى انسحاب كلّ القوات الأجنبية منه".
قناعة لبنانية بأن إسرئيل تهدف إلى الإتيان بلبنان مخفوراً إلى معاهدة سلام تعلو فيها الشروط الإسرائيلية على كلّ معلم وملمح
وبعد أقلّ من 24 ساعة على تذييل الاتفاق بإمضاءات الوفود، اللبناني والإسرائيلي والأميركي، أطلق وزير الدفاع الإسرائيلي موشي أرينز موقفاً متنصّلاً من تعهدات الانسحاب من الأراضي اللبنانية، بحسب ما جاء في صحيفة الرأي العام الكويتية (18/5/1983)، قال "تطبيق الاتفاق يتوقّف على انسحاب القوات السورية والفلسطينية من لبنان، واستعادة الأسرى الإسرائيليين"، ونقلت صحيفة الرأي الأردنية (في التاريخ نفسه) عن رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض، ديفيد كيمحي، قوله: "انسحاب القوات الإسرائيلية لن يتم إلا بعد أن تتسلم إسرائيل الأسرى والمفقودين، وفور أن يرحل السوريون ومقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية من أرض لبنان".
بصورة عامّة، حصلت إسرائيل على اعتراف لبناني بـ"إنهاء حالة الحرب بينهما"، مثلما نصّت مقدّمة الاتفاق، وعلى تبادل العلاقات وإقامة ترتيبات أمنية تحدّ من تحرّكات الجيش اللبناني في المناطق الحدودية. وهذه المكاسب الإسرائيلية كلّها مقابل "تعهّد" بالانسحاب، ومتى يكون الإنسحاب؟ حين ينسحب السوريون والفلسطينيون من لبنان (!). وبالفعل، هذا ما أضاءته صحيفة اليوم السعودية (19/5/1983)، حين قالت إن "انسحاب القوات الإسرائيلية مرتبط بانسحاب بقيّة القوات"، أي أن الإسرائيليين (ومن خلفهم الأميركيون) "أشركوا" أطرافاً في الاتفاق لا ناقة لهم ولا جمل، ورموا معضلة الانسحاب عليهم.
وهذه الخلاصة شكّلت مضمون تحليل إخباري لمراسل صحيفة الرياض (21/5/1983) في واشنطن، بعنوان "أميركا تضفي الشرعية على وجود العدو في لبنان"، وفيه "وقّعت الولايات المتحدة وإسرائيل اتفاقيةً بينهما يوم 17 مايو/ أيار، وبشكل سرّي، حيث قام القائم بأعمال سفير العدو في واشنطن، بنيامين نتنياهو، ووزير الخارجية (الأميركية) جورج شولتز، بتوقيع هذه الاتفاقية في واشنطن، وقام سفير الولايات المتحدة في إسرائيل، صموئيل لويس، ووزير خارجية العدو إسحق شامير، بالتوقيع على الاتفاقية في تل أبيب، وقد تبين أن من بين بنود هذه الاتفاقية البندَين التاليَين، الأول أن لإسرائيل حقّ الدفاع عن النفس ضدّ أيّ هجوم يقوم به إرهابيون ضدّ قواتها في لبنان، والثاني أن لإسرائيل حقّ إبقاء قواتها في لبنان حتى خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية والقوات السورية منه".
هل يمكن القول ما أشبه اليوم بالبارحة، إذ تبرز ورقة الضمانات الأميركية لإسرائيل، وتشمل حرية الحركة الغليظة في لبنان، ومعها الربط بين الانسحاب والإعمار والسلاح وأشياء أخرى مخفيّة، قد يكون من بينها تهجير أهالي الجنوب اللبناني، كما هو مشروع تهجير أهالي غزّة؟ وبناء على ذلك، من يضمن ألا تكون تل أبيب مُضمِرة هذا الأمر، ومن يضمن أيضاً أن ينسحب جيش الاحتلال من الأراضي اللبنانية إذا نادى المنادي: لقد نزعنا السلاح؟
