"ماسح الأحذية".. حكايات البشر من القدم إلى الرأس
عربي
منذ 17 ساعة
مشاركة

يستعد طاقم مونودراما "ماسح الأحذية" لجولة عربية أوروبية، بدءاً من هذا الصيف، حتى يواصل هذا العمل، عبر ساعة كاملة، سرد حكايات الأحذية، بوصفها الوجه الآخر للبشر. يقول البطل الوحيد على خشبة المسرح، ماسح الأحذية، الفنان التونسي محمد علي العباسي، إنها وجهنا الآخر، ثم يستدرك بأن الأحذية، أبعد من ذلك، "الوجه الحقيقي لكل واحد منا".

يعيش أعضاء الفرقة حالة من نشوة الفوز والتقدير، إذ نالت مسرحيتهم الشهر الماضي جائزتين في تونس، خلال الدورة السابعة من المهرجان الدولي للمونودراما في قرطاج، وهي أول مشاركة قطرية في المسابقة الرسمية بالمهرجان منذ انطلاقته عام 2018.

جوائز وتكريم

كان الكثير من الحديث المتداول حول فوز مسرحية "ماسح الأحذية" بجائزة أفضل عمل متكامل، لكن نصيبها في المهرجان لم يكن هيناً، إذ نالت جائزة أفضل نص، والذي كتبه القطري خالد الجابر، وهو أيضاً باحث في الدراسات الخليجية والعربية والدولية، كما نالت جائزة أفضل إضاءة استحقها مخرج وسينوغراف المسرحية التونسي حافظ خليفة، بينما نال ممثل العمل العباسي تنويهاً من لجنة تحكيم المهرجان.

ثم جرى الأسبوع الماضي تكريم وعرض للمسرحية في بادرة رعتها مؤسسة الحي الثقافي كتارا، فتابع جمهور مسرح الدراما عرضاً مختصراً إلى النصف، بالتزامن مع أيام مهرجان الدوحة المسرحي السابع والثلاثين، حيث كانت لخالد الجابر مسرحية أخرى بعنوان "الربان"، ضمن عشرة أعمال مشاركة في هذه الدورة.

في عام 2023، ضمن خمسينية المسرح القطري، شاركت المسرحية بالاسم ذاته، ولكن في عرض جماعي يؤدي فيه العباسي دور ماسح الأحذية، قبل أن يتحول النص إلى عرض مونودرامي مع شركة جسور للإنتاج الفني، وبالتالي تغيّر العمل جذرياً، وصار الممثّل الواحد يحمل النص كلّه على ظهره، وبات على المخرج حافظ خليفة أن يبذل الطاقات الكبرى حتى يعبر شخص إلى بر الأمان وحده دون حاجة إلى آخرين، لا بل إن هذا الشخص صار بمقدوره أن يتحدّث نيابة عن الأشرار والأخيار والضحايا من دون هويات ضيقة، ويمثلهم كأنهم موجودون بأجسادهم، وبالأحرى بأحذيتهم.

من الأسفل إلى الأعلى

يقع زلزال يطيح بالأرض ومن عليها، ومن ذلك ماسح الأحذية الرابض يومياً في إحدى محطات القطار، حيث يسقط الجميع في حفرة، ونحن لا نرى بالطبع سوى واحد سيؤدي الدور بجدارة نيابة عن العسكري الضابط المستبد، والمثقف والمتردد والمرأة الضحية، هؤلاء سيؤدي دورهم الممثل ذاته الذي من موقعه ماسح أحذية، يرى الجميع من الأسفل إلى الأعلى، من الحذاء إلى جبهة الرأس.

من الذي صنع الطاغية؟ أهو حاصل جمع ماسحي الأحذية؟

وحين تدلّت حبال الإنقاذ لضحايا الزلزال في الحفرة صاح ماسح الأحذية بأعلى صوته بأن يرفعوا الحبال: "ارفعوها حتى أحكي حكايتي". ها هو الرجل يعرف كل شيء، ويراهن على سرّه المعرفي، إذ يقول إنَّ العرافة تعرفنا من خلال قراءة الكف أو ما يرتسم على فنجان القهوة. "إنهم يقرؤون تعابير وجوهكم، أما أنا فمن نوع آخر، أستطيع معرفة كل ما يدور في أذهانكم من خلال أحذيتكم".

يستدعي ماسح الأحذية واحداً ذا عنق طويل لضابط الجيش، وهو لا يكف عن إصدار الأوامر العنيفة للجميع، ثم حذاء المثقف المنفصل عن جذوره، وآخر لامرأة مطلقة تقاتل من أجل استقلال صوتها، وغير ذلك من شخصيات.

لكل مقام حذاء

يدور ماسح الأحذية حافياً، وبأداء ممتاز يخرج من ذاته متقمصاً أصواتاً من طبقات مختلفة، وهو يترجم مقولته "لكل مقام حذاء". إنه مؤمن بهذه الأمثولة ويقرأ في الأحذية كتباً صغيرة مكتوبة بحروف لامعة، أو مغبرة، أو مبتورة، أو متلعثمة.

يرتدي حذاء العسكري ويخلعه ويتبادل مع ذاته دورين اثنين، ينشطر الرجل الفقير إلى نصفين؛ واحدٌ منهما مستبدّ بالغ القسوة، والآخر هو الذاهل المطحون، وقد توالت عليه المصائب التي تهدد وعيه الصلب وتريد إهانته. من الذي صنع الطاغية؟ أهو حاصل جمع ماسحي أحذية؟

هذا الإنسان أستاذ جامعي، يمسح الأحذية في محطة قطار. هرب من بلده سورية إلى تركيا، وقد فقد بعضاً من عائلته حين قصف النظام بيتهم بالبراميل. هذا رجل نرى أطفاله بخطوط بيضاء وسوداء على الشاشة الرقمية، وهو يجول أغلب الوقت حافياً، لأن الحقيقة حافية، وكان عليه أن يجأر بصوته، أو يهمس بأسراره المخبأة في صندوق البويا.

هذا الأستاذ الجامعي كان موجوداً في محطة قطار حقيقية، وتعرّف إليه خالد الجابر مؤلف المسرحية، وهو يعمل بهذه المهنة في محطة قطار في إسطنبول، بغية جمع المال الكافي للهجرة إلى ألمانيا. لمعت الفكرة ليتحول الشخص على يد النص المسرحي إلى مستنطق تاريخ الأحذية وعوالمها، من حذاء الطنبوري المقطّع الموصّل إلى القباقيب التي قتلت شجرة الدر، مروراً بسندريلا التي أدى بها الحذاء إلى عالم الأميرات.

أحذية ودروب

ثمة في كل الثقافات سيرة أحذية أو سيرة الدروب التي كتبتها، أو حكايات البشر الذين ضاعوا ونظروا إلى أقدامهم منتعلة أم لا، وغيرهم على مقربة تأملوا هذه المنطقة السفلى، الحضيض الذي لا بد منه ليحمل الجسد.

والجسد حين يتوجع قد يصبح استعارياً جسد حذاء، كما في مجموعة قصصية للسوداني عبد الغني كرم الله، صدرت عام 2005 بعنوان "آلام ظهر حادة"، حيث الحذاء هو الذي يحمل كل هذا الألم في ظهره.

واحد من أفضل أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة في أربعينيات القرن الماضي، وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية بعام كان فيلم "ماسح الأحذية" للمخرج فيتوريو دي سيكا، يحكي قصة طفلين، ضاع حلمهما بسبب جور النظام السياسي، وتهتك المجتمع، بعد حرب أطاحت كل شيء.

استطاع خالد الجابر أن يدلي بدلوه إبداعياً في أول عمل مسرحي له، فكانت أطروحته تجري على لسان شخص، هو يختاره ويجد فيه الجدارة لقول كل شيء، مع العلم أن المسرحية التي أخرج المخرج القطري أحمد المفتاح نسختها الجماعية في عام 2023، لاقت نجاحاً جيداً، إلا أن طبيعة نص الجابر تفضل أن يكون نجم واحد، أو ربما اثنان، قادراً، أو قادرين، على جعل بؤرة العمل حارقة ووجودية.

مونودراما ثانية

لعل هذا العمل يتقاطع مع مسرحية "الربان"، التي تدور على ظهر سفينة تائهة في عرض البحر، إذ رشحت معلومات بأن ثمة إمكانية لتحويلها هي الأخرى إلى مونودراما، بعد أن عرضت لأول مرة هذا العام في مهرجان الدوحة المسرحي.

كل من تابعوا العرض في تونس ذا الساعة الكاملة، وتابعوا العرض المختصر في الدوحة، لفتوا إلى أن إيقاع العمل وتوتره الفني ظل في النسخة الطويلة كما هو، ما يشير إلى جودة النص الذي خلا من الحشو والتكرار، كما أكد بلا شك جودة الشأن التقني والرؤية البصرية التي دفعت العمل فنياً إلى الأمام، من الإخراج والدراماتورغ والسينوغرافيا الرقمية.

استنطاق تاريخ الأحذية من الطنبوري إلى سندريلا وشجرة الدر

يبدو أن فكرة مسرح المونودراما والديوراما تعرف رواجاً بسبب توفيرها الكثير من المتطلبات اللوجستية، غير أن الإبداع في خصوصيته الأولى يدرك جيداً كم هي مكلفة إدارة ممثل واحد أو ممثلة واحدة لملء فضاء مسرحي، ويكون مقنعاً لجمهور ملول بفطرته.

ثالوث مسرحي

يقول حافظ خليفة، مخرج المسرحية لـ"العربي الجديد"، وهو أيضاً مدير مهرجان الصحراء الدولي في تونس، إن الإخراج أولاً وقبل كل شيء هو فن إدارة الممثل، إذ ينبغي على المخرج أن يحول الممثل إلى صفحة بيضاء حتى يتمكن المخرج من صياغة رؤيته. وبالنسبة له، فإن النص المسرحي يكتب على الركح (المسرح) لا في جدران مغلقة وهو ثالوث بين المخرج والممثل والمؤلف، والمونودراما بالذات صعبة، بل أشد تعقيداً من المجاميع. 

وخلص أخيراً إلى أن المونودراما إبداع مسرحي من العيار الثقيل يؤدي فيه الممثل، ويشخّص شخصيات مكتوبة، وتنمو درامياً، وتصل إلى نهايتها، وهذا يختلف عن الـ"ون مان شو" و"الستاند أب كوميدي"، اللذين يعتمدان على مهارات تشبه مهارات السيرك أو الكباريه، أو أي شكل من العروض الترفيهية، التي يسعدها غالباً أن تكسر الجدار الرابع، وقد تتقاطع كلها في زاوية ما، لأنَّ الفنون لا تخاصم بعضها، بيد أنَّ شخصية المونودراما تبقى في نهاية المطاف ذات بناء مسرحي مستقل في محتواه.
 

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية