
تُصدر الروائية السورية حسيبة عبد الرحمن روايتها الثالثة بعنوان "السمّاق المُرّ" (دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، 2025)، بعد "الشرنقة" التي تناولت تجربة السجينات السياسيات، و"تجليات جدّي الشيخ المهاجر". رواية جديدة تتقاطع فيها التجربة الذاتية مع السرد السياسي، وتكشف عن زوايا معتمة في ذاكرة الطائفة العلوية وتاريخ الحكم في سورية.
تجربة عبد الرحمن ليست مجرد تأمل روائي، بل شهادة حيّة. فقد قضت ثماني سنوات في السجن خلال حكم حافظ الأسد، واعتُقلت مرات عدة في عهد ابنه بشار. عرفت الكاتبة من قرب دهاليز السلطة بصفتها مثقفة يسارية انخرطت في حلقات ماركسية ثم في حزب العمل الشيوعي.
تعيد الكاتبة في روايتها بناء تاريخ حافظ الأسد مستخدمةً تقنية السرد عبر 54 صورة، تقدم من خلالها مشاهد مركّبة من التاريخ السياسي السوري، بدءاً من صعود الأسد إلى السلطة وصولاً إلى إرثه داخل الطائفة. تسرد علاقاته المعقدة مع رموز البعث مثل ميشيل عفلق وصلاح جديد الذي يكنّ له حافظ حقداً طبقياً، وأكرم الحوراني الذي ناداه الأسد بـ"المعلم"، رغم صراعهما السياسي والاجتماعي، وياسر عرفات الذي شكّل مصدر إزعاج دائم للسلطة السورية.
حافظ الطائفة... ونقمة الداخل
لا تُظهر الرواية حافظ الأسد بصفته طاغية فحسب، بل باعتباره مهندساً لتحوّلات عميقة داخل البنية العلوية. فقد سعى، كما تقول الرواية، إلى "الهيمنة على الطائفة" خلال الثمانينيات عبر تصعيد ضباط من خلفيات متواضعة، وتهميش المشايخ التقليديين لصالح "مشايخ جدد" من المؤسسة العسكرية. تسجّل الرواية، من وجهة نظر سردية نقدية، كيف فرض الأسد شبكته السلطوية على الطائفة، وواجه في البداية رفضاً واسعاً من أبنائها، قبل أن تحوّل الحرب مع الطليعة المقاتلة والإخوان المسلمين هذا الرفض إلى استسلام، وربما اصطفاف.
كتابة تاريخ سورية الحديث من خلال شخصية تُمثّل قلب النظام
تقدّم الرواية صورة مُتخيلة لرحلة روح الأسد بعد موته، حيث تطوف المدن السورية، وتواجهه أرواح خصومه السياسيين والمعارضين، من الإسلاميين إلى اليساريين، في سردية تكثف مأساة الاستبداد وتجلياته. يُتهم الديكتاتور بالكذب والنفاق واستغلال شعارات القومية والاشتراكية والأخلاق لتثبيت سلطته، في حين يسخر منه الجميع قائلين: "لم تكن تدافع عن الوطن بل عن عرشك".
تاريخ منسي
تأتي الرواية الجديدة استكمالاً لـ"تجليات جدّي الشيخ المهاجر"، حيث حاولت الكاتبة إعادة الاعتبار لرموز الطائفة الأصليين الذين قاوموا عسكرة الدين. هناك، روت أساطير الطائفة حول مشايخها الخالدين، وحاولت ترميم صورة الطائفة بعيداً عن التشويه الذي مارسه النظام. تُشير عبد الرحمن إلى محاولات سابقة لمنع نشر روايتها، خاصة من ضباط كبار خشوا من كشف أسرار الطائفة واندلاع حرب أهلية، بحسب تحذيرات وردت في بيان اتحاد الكتاب العرب آنذاك.
كتابة بلا أسماء
حرصت الكاتبة في روايتها على التعمية الرمزية، فغيّرت أسماء الشخصيات مراراً، وتجنبت ذكر حافظ الأسد صراحة، ووصفت البلاد بـ"المملكة"، والديكتاتور بـ"الملك". لكن الرمز لا يخفي الإشارة، والسياق يشي بالمرجع. الرواية لا تستعرض مسيرة طاغية فحسب، بل تعيد كتابة تاريخ سورية الحديث من خلال شخصية محورية تُمثّل قلب النظام وأطرافه في آن معاً.
ورغم ذلك، تقع الرواية أحياناً في إشكالية غير محسوبة، حين تمنح الشيخ المهاجر وذريته هالة دفاعية، من دون مساءلة امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية، التي لا تقل تسلطاً عن نخب السلطة، ما يفتح باب النقد لمسألة العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة داخل الطائفة وخارجها.
"السمّاق المُرّ" رواية سياسية بامتياز، وربما يُشكّك بعض النقاد في تصنيفها ضمن الأدب الفني، لكنها بلا شك عمل توثيقي روائي يقدّم وجهة نظر من داخل الطائفة العلوية نفسها، ويحفر في ذاكرة القمع والطائفية والطبقية. تلتقط الرواية لحظة تأسيس الاستبداد، وتسردها من خلال الأدب، حيث يُصبح النص أداة مساءلة، لا أرشيفاً فقط.
توفرت للرواية تقنيات السرد واللغة والتكثيف، وتمكنت من تقديم شهادة أدبية عن أحد أكثر الفصول قتامة في التاريخ السوري الحديث. حافظ الأسد، هنا، ليس فقط شخصاً، بل بنية سلطوية كاملة، هيمنت على الدولة والمجتمع والطائفة، وشكّلت مآلات مأساوية ما زال السوريون يعيشونها حتى اليوم.
*كاتب من سورية
