محمود أبو زيد:  العار والكيف وجري الوحوش
عربي
منذ 20 ساعة
مشاركة

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم

كنا ثلاثة ندرس الإخراج في المعهد العالي للسينما بالقاهرة، وبعد تخرجنا في سنة 1966 لم يعمل أحدنا بالإخراج، بل بالتأليف. محمود أبو زيد ومحسن زايد أصبحا من أشهر كتاب السيناريو في السينما المصرية، وأنا انطلقت في بيروت مؤلفاً مسرحياً وتلفزيونياً وإعلامياً.
وكنا ثلاثة من طلبة قسم الإخراج ربطت ما بيننا صداقة نشأت بسرعة ودامت على مهل، وامتدت إلى ما بعد التخرج: أنا ومحمود أبو زيد وعلي عبد الخالق، ثم انضم إلينا زميل يدرس التصوير، هو شوقي علي، الذي سيصبح بعد سنوات من التخرج عميداً لمعهد السينما. وكنا نجتمع مراراً وتمتد بنا سهرات الأحاديث إلى قرب الفجر. وفي بعض الليالي كنت أبيت في منزل محمود أبو زيد أو في بيت علي عبد الخالق. ثمة موضوع واحد كان يفصل بيننا، هو متابعة مباريات كرة القدم. لم يكن محمود أبو زيد مهتماً بشؤون الكرة ومثله شوقي علي. أما أنا وعلي عبد الخالق فلا تفوتنا مباراة. لكن بينما كنت مشجعاً متحمساً للنادي الأهلي كان علي من الأنصار الملتزمين بتأييد فريق الزمالك اللدود.
وكدنا، أنا ومحمود أبو زيد، أن نُطرَد من المعهد قبل أن تنتهي السنة الدراسية. بسبب السهر كنا في بعض الأيام نصل متأخرين إلى المعهد، في تمام التاسعة يتمّ سحب كشوف التوقيع التي تثبت الحضور. ولو حضر الطالب في التاسعة ودقيقة يعتبر غائباً ذلك اليوم. وحدث أن استدعانا حسين عسر (الممثل وشقيق الشهير عبد الوارث عسر) وكان يشغل وظيفة إدارية في المعهد، ونبّهنا قائلاً: "عليكما بالحذر. في رصيد كل منكما حتى الآن 14 غياباً، ولو بلغتما اليوم الخامس عشر فلن يتورع العميد الصارم محمد كريم عن توقيع قرار الطرد. لا تستهترا بمستقبلكما". كنا على مسافة شهر من نهاية العام الدراسي، فاتبعنا نظاماً صارماً مع لجوء إلى دعم الأهل للإيقاظ في الصباح الباكر، فمضى الشهر من دون وقوع الكارثة.
كان محمود أبو زيد الطالب الوحيد في دفعتنا، المُسَجَّل في معهد السينما، وفي كلية الآداب في الوقت نفسه. هنا يدرس السينما وهناك الفلسفة وعلم النفس. كان قد أمضى سنة في كلية الآداب قبل الالتحاق بالمعهد. ثم أعطى الأفضلية لدراسة السينما وتخرجنا سنة 1966، وأكمل دراسة الفلسفة ونال الليسانس. وكان اثنان من أساتذتنا يعرفانه، كونهما أساساً من أساتذة كلية الآداب، وهما د. يحيى الخشاب (علم الاجتماع) ود. مصطفى سويف (علم النفس).
بعد التخرج عمل محمود أبو زيد في وزارة الثقافة، في لجنة الرقابة على الأفلام. ثم تفرغ للتأليف، خصوصاً للسينما، كاتباً القصة والسيناريو والحوار في اثنين وعشرين فيلماً. أولها فيلم "القتلة" (1971) من إخراج أشرف فهمي (خريج معهد السينما، في دفعته الأولى). وهو فيلم بوليسي-اجتماعي قام ببطولته صلاح ذو الفقار وناهد شريف. أعقبه في السنة التالية فيلمان من إخراج حسام الدين مصطفى "الخطافين" و"ملوك الشر" وكلاهما من بطولة فريد شوقي، بمشاركة نبيلة عبيد في الأول ونيللي في الثاني.
وبعد تأليف أربعة أفلام أخرى، بدأ التعاون بين الصديقين محمود أبو زيد كاتباً، وعلي عبد الخالق مخرجاً، في خمسة أفلام غاصت موضوعاتها في حضيض المجتمع، ونالت لدى عروضها إقبالاً شعبياً كبيراً. أولها فيلم "العار" (1982). وبطله حاج متديّن لكنه تاجر مخدرات، معتبراً إياها من العطارة التي يملك متجراً لبيعها. أحد أبنائه يعلم السر، ويستنكر الاثنان الآخران ذلك، لكنهما وقد ورثا الثروة يسوّغان التجارة الحرام. غير أن البضاعة المخبأة في بحيرة مالحة تفسد، وتفسد حياتهم. والمخدرات هي موضوع فيلم "الكيف" وبطله طالب فاشل يتحول إلى مطرب فرق شعبية منحطة ويدمن المخدرات ويرفض نصيحة أخيه الكيميائي، بل يخدعه ويغريه بتجربة تقود إلى الإدمان بشراسة فيخسر عمله وحياته. أما في "جري الوحوش" فالآفة هي تجارة الأعضاء البشرية، وطبيب يجري التجارب على بشر يقبلون بسبب الحاجة على المال، أو الجشع في ربحه ولو بطرق غير مشروعة. وأما فيلم "البيضة والحجر" فيعالج هوس سكان حي شعبي بالشعوذة، ويؤمنون بقدرات دجال محترف. يخلفه في مسكنه أستاذ فلسفة ضاقت به سبل العيش. يحاول أن يقنع الأهالي بأن ألاعيب السحر خرافات لا طائل تحتها، لكنهم يلحّون عليه أن يعالج مشكلاتهم على غرار سلفه، ولا يلبث أن ينساق ويجني من الدجل أرباحاً لم ينل مثلها من تدريس الفلسفة. وبطلة فيلم "عتبة الستات" طبيبة تظن أنها عاقر لأنها لم تنجب برغم مرور سنوات على زواجها، في حين يكتشف الأطباء أن الزوج هو العقيم، لكنه يخفي الحقيقة، وتلجأ الطبيبة إلى مختلف السبل لكي تحمل، ومنها الدجل الشعبي. يحدث أنها تتعرض لحمل كاذب، فيتهمها زوجها بالزنا. وكان قد جَمعُ الثروة من الربا موضوعَ "ديك البرابر" (إخراج حسين كمال) وفيه الأب المنحرف يرغب في توريث ابنه الذكر الوحيد وحرمان بناته الأربع، برغم تخلّف الولد العقلي. وفي "الأجندة الحمراء" (إخراج علي رجب) طبيب يكتشف أن صديقه مصاب بداء الزهري، ولحماية المجتمع يبحث عن النسوة المصابات، فيتضح أن الصديق هو ناقل المرض الذي أصابه من داعرة.
من سِيَر تجار المخدرات والمدمنين، إلى المشعوذين، فتجار أعضاء الجسم الإنساني، إلى جماعة الربا والزنا والأمراض السارية والدعارة والاستيلاء على أرزاق الغير، والرغبة في الثروة ولو من طريق الحرام، كانت معظم موضوعات الأفلام تدور في فلك ذلك الجانب المظلم من المجتمع. وفي جلسة جمعتني به قال لي محمود أبو زيد "أنت يا صديقي أخبر الناس. حكايات القوم الأسوياء لا تنتج مادة لفيلم سينمائي. لكن سير شذّاذ الآفاق بها ما يجعل المؤلف يكشف ويناقش ويدين. معالجة الانحراف مادة مغرية للمؤلف الدرامي".
وفي أفلامه التي تضمنت أغنيات، كان محمود أبو زيد كاتب الكلمات، وكان حسن أبو السعود ملحن معظم هذه الأغاني. منها ما أنشده أحمد زكي في فيلم "البيضة والحجر" ومطلع الأغنية الواردة في مستهل الفيلم يقول "جاب الخبر من ع الشجر/ الدنيا دي فيها العِبَر/ في ناس بتنحت في الصخَر/ وناس بتلعب بالبيضة والحجر". ومنها ما أنشده محمود عبد العزيز في فيلم "الكيف" مثل: "الكي كيمي كا" أو "يا حلو بانِتْ لبِّتك/ أول ما دابت قشرتك/ تحرم عليَّ محبّتك/ ورح أتوب عن سِكّتك/ القلب منك مليان جفا/ والصبر من قلبي اختفى/ وضاع معاه كل الصفا/ ضيّعتُه بِعِنْدَك يا قفا/ آه يا قفا" أو "تعالى تاني/ للدور التحتاني/ ناكل لحمة ضاني/ ونحلّي بسوداني/ دي القعدة هنيّه/ واللقمة شهيّه/ وح نشبع أغاني". في أغنية "البيضة والحجر" ذكر أنها من تأليفه، أما في عناوين فيلم "الكيف" فذكر أن الأغاني من "تخريف" محمود أبو زيد. إذ هي في الفيلم أغاني تحشيش ينشدها مغنٍّ سوقي وينظمها شويعر بذيء. وهي نقد للأغاني الهابطة الرائجة آنذاك. وهي نظمٌ على منوالها للسخرية منها. في الفيلم يقول المغني للشويعر المدعو سَتاموني "احنا عايزين كلمات هايفة". وعندما يسمعه الهذر ويشرح مزهوًا قيمة استخدام تعبير "القفا" بقوله "كلهم بيغنوا للعيون والرموش والخدود والشعر. إنت أول واحد ح يغني للقفا"، يثني عليه المغني "بحبك يا سَتاموني مهما الناس لاموني". وحدث أن شركة إنتاج أغان رغبت في شراء حقوق هذه الأغاني لطبع أسطوانات وأشرطة تجارية، فرفض محمود أبو زيد، مبرراً أن هذه الأغاني مطابقة للشخصية التي تؤديها في الفيلم، فإذا أخرجت من هذا السياق، يمكن اعتبارها ذات كلمات مبتذلة. لكن محمود عبد العزيز أقنعه بالموافقة، مع ذكر أنها من الفيلم، ولكون مؤدّيها ممثلاً وليس مطرباً، فستبقى هذه الأغاني مرتبطة بمنبتها الدرامي.
وكما كلمات الأغاني كذلك بعض عبارات الحوار التي شاعت على الألسنة، وهي من نوع الهذر الصادر عن ألسنة متعاطي المخدرات، مثل "نفيّش الهوامش" و"أنا اللي سَتِّفْت الأونطه جوّه الشنطه" و"أنا بحبك يا فنانِسْ". وعلى غرار كلمات الأغاني وعبارات الحوار تجد أسماء الشخصيات في بعض الأفلام مثل تايكون الدخاخني وعِشَرِيه (ديك البرابر) سباخ التيبي ونظنظ هانم (البيضة والحجر) عاصم الخرابشة والشيخة هناجه (عتبة الستات) جمال مزاجنجي وسليم البهظ وعبده الكرف (الكيف). أما في الأفلام التي لا تجري أحداثها في أوساط الرذائل، فالأسماء من المألوفة المتداولة.
في كل أفلامه قاد محمود أبو زيد الشخصيات سيئة السلوك إلى بئس المصير. لحقت بها الهزائم في نهايات أفلامه. وفي ذلك عبرة أخلاقية إيجابية واضحة. وبرغم ذلك، حرص المؤلف في بعض أفلامه على دعم العبرة بآية من القرآن الكريم، أو ببيت شعر عربي، أو بحكمة محمودة. في ختام فيلم "الكيف" تسمع الراوي يردد بيتَ شِعر شهيراً لأحمد شوقي: "وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت/ فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا". وينتهي فيلم "بون سواريه" بحكمة "ومن كان رزقه على الله فلا يحزن". أما فيلم "كيدهن عظيم" فيقول البطل في ختامه مردداً الآية الكريمة ﴿من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدّل الله سيئاتهم بحسنات﴾. رأى البعض في ذلك ضرباً من تأكيد المؤكد، تجعل الدراما تُختتم بعظة، ورأى البعض الآخر أنها من ضرورات التأثير في المتلقّي من مدخل الثوابت الإيمانية وهى أرفع ما يتمسك به الفرد في مجتمعه العربي.
فضلاً عن تأليف الأفلام السينمائية، كتب محمود أبو زيد مسرحيتين من لون الكوميديا: "جوز ولوز" من بطولة أحمد بدير وسعاد نصر، و"حمري جمري" من بطولة صابرين وعلاء ولي الدين. كما كتب المسلسل التلفزيوني "العمة نور" وكان من بطولة نبيلة عبيد، بطلة مسلسله الإذاعي "سجن الزوجية" مع محمود عبد العزيز. وكان فيلم "بون سواريه" آخر ما كتب محمود أبو زيد (سنة 2010). وبعد عام أخذ يراقب متغيرات الأحوال السياسية التي طرأت في مصر، لعله يستخلص من أحداث الربيع العربي المتلاحقة مادة لفيلم جديد. لكن المرض العضال أقعده عن العمل، وكانت وفاته أواخر 2016 عن 75 عاماً.

كان قد أنجب ثلاثة أبناء، عملوا في الوسط الفني. ابنه البكر أحمد أبو زيد درس الإخراج والسيناريو بمعهد السينما، والتحق بعد التخرّج بالقناة الفضائية المصرية وأخرج عدداً من البرامج التلفزيونية والأفلام التسجيلية، وبرز اسمه بمسلسلات تمثيلية من تأليفه، وبعضها استناداً على قصص أفلام والده مثل "العار" و"الكيف" وفي هذا المسلسل شارك الأخوة الثلاثة: الأخ الأوسط أشرف مؤلف الموسيقى التصويرية، والأخ الأصغر كريم، قام بالتمثيل (وهو كان أدّى دور "الطفل كوكي" في فيلم "الكيف"). كريم درس السيناريو، واحترف الغناء وسجّل ألبومات، منها "لون شعرك" و"تفاحة آدم" من ألحان أخيه أشرف، لكنه فضّل التمثيل، وأدّى أدواراً مختلفة في مسلسلات وأفلام، ويعكف حالياً على تأليف القصص القصيرة. أما أشرف، فقد توفي سنة 2023 عن عمر ناهز السابعة والأربعين

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية