
يستيقظ في أحد الأيام غريغور سامسا، بطل مسخ كافكا، ليجد نفسه وقد استحال صرصاراً. ينساه العالم الغارق في همومه المتسارعة، ويصبح أشبه بالميت الحي. ها هو مُلقى ووحيد وسط عالم لا يراه. أما في سورية قبل سقوط نظام الأسد، يستيقظ الشبان والشابات ليجدوا أنفسهم سوريين عالقين في دوامة الحياة اليومية المتكرّرة، كأن حياة الإنسان السوري تحولت إلى لعنة على صاحبها، ما جعل مأساة سمكة في فيلم المخرج أمين أبو قاسم "6 أقدام فوق سطح البحر"، هي أن تستيقظ وتجد نفسها تحولت إلى مواطن سوري.
عبر طرح سوريالي تجريبي، يحاول أمين أبو قاسم تقديم فيلمه متجنّباً عيون الرقابة المؤسّساتية، ليبقى في منطقة الأمان، خوفاً من ملاحقة أمنية أو اعتقال؛ فقدّم الفيلم بنسختين صوّرهما خلال ثلاثة أيام في ظل ظروف إنتاجية ورقابية صعبة، وكانت شخصية السمكة هي البطل. جاء الفيلم الأول بقصة تتماشى مع معايير الرقابة، وعُرض مشروعَ تخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية، والنسخة الأخرى التي حازت دعم مؤسّسة اتجاهات للثقافة والفنون هي النسخة الأساسية التي أراد أبو قاسم تحقيقها.
عبر نسختيه المبنيتَين على القصة نفسها، يمثل الفيلم انعكاساً واضحاً للخوف السوري، ويمثل كذلك تجربة في أدوات التحايل والتلاعب على السلطة، فالحكاية لا تختلف في كلتا النسختين: "هي حكاية سمكة استيقظت لترى نفسها تحولت إلى شاب في سورية غير الصالحة للحياة"، كما يصفها مخرج الفيلم، "وتحاول التأقلم مع هذا الواقع الجديد، لتغرق في دوامة حياة الشباب السوري وتصبح واحداً منهم وتتطبع بطباعهم".
الفيلم هو التجربة الإخراجية الثانية لأبو قاسم، إذ قدم فيلمه الأول بعنوان "ونحن نعبر الجانب الآخر من الحديقة"، يستعرض فيه عبر مونولوغ طويل المشاعر المتناقضة للتعامل مع يوميات مدينة دمشق في ظل حكم الأسد، فمن فيلمه الأول تمثل المدينة جزءاً أساسياً من مشروعه الإخراجي، يستكملها مع "6 أقدام فوق سطح البحر"، لتصبح المدينة شخصية تفرض حضورها كما السمكة، وكأنه صراع بقاء تنتصر فيه المدينة، وتعلن السمكة انهزامها وتحولها إلى مواطن سوري. صراع بقاء مع كائن بسيط جداً وهو السمكة الموجودة عادةً في حيز مكاني بالغ التعقيد وهو البحر، نزعها الفيلم من عالمها ليضعها في مدينة قائمة على التعقديات. يتحدث أبو قاسم عن الهاجس خلف تعلقه بالمدينة وعن رغبته بالتعبير عنها وعن تحديها ومواجهتها بواسطة شخصية السمكة؛ فيقول إنه ينظر إلى المدن على أنها شخصيات حية، ويرى بدمشق محبوبته؛ فهي تمثل له كل ما يحبّ، وفي الوقت نفسه هي مصدر معاناته، فهي قادرة على مسح فردانية سكانها وجعلهم نسخاً ونماذج متشابهة قادرة على التكيف مع قسوتها كمدينة.
تمر السمكة خلال تجربتها للتأقلم مع الواقع السوري بدوامة الحياة اليومية لدمشق المدينة الميتة، تدخل في دائرة من التكرار وتلتقي بشخصيات عدّة فقدت فردانيتها الإنسانية. شخصيات ذابت هويتها لتجتمع بهوية واحدة هي "الشباب السوري" الذي يعيش اليأس الذي لا يكافح من أجل خصوصيته، الغارق في الحياة البطيئة المكرّرة، وأثناء التكرار تواجه السمكة العنف والغضب الذي يكسو حياة الجيل الشاب، العنف الذي وصل إلى ذروته في مشهد صفعة تلقتها السمكة من "ميكي ماوس" بائع البالونات المتجوّل الأشبه بمسخ مرعب بملابسه المهترئة، الذي من المفترض أن ينشر البهجة، لكنّه رأى في فرادة السمكة تحدياً له، ووجدها أشبه بمنافس في مجال عمله فهو الذي يجب عليه أن يكون خاصاً لا هي.
تتعامل السمكة أثناء تجوالها في شوارع المدينة مع نماذج مختلفة من الشباب، تتعاطى معهم بوصفها مراقباً صامتاً ومستعداً للتجربة، حتى تتماهى في النهاية وتتأقلم مع واقعها، عَكسَ الشباب الذين التقتهم صورةً مصغرةً عن شريحة العشرينيات والثلاثينيات في سورية، كلٌّ يتعامل بأسلوبه مع المكان، إذ كان حضور المدينة بثقلها طاغياً على الشخصيات، فنرى الكحولي المدمّر، ونرى المدخن المنتظر في موقف السرافيس، والمتأمّل عتمة المدينة فوق جسر الحرية (الرئيس سابقاً)، وختاماً مع هدوء المدينة ومحاولة التقاط جمالياتها المدفونة في مشهد الفجر على سطح أحد الأبنية القديمة، برفقة شاب قرّر التصالح مع دمشق والتماهي معها. وخلال هذه المشاهد، يتخلل العمل بعض اللقطات التي ترسخ وجود المراقبة ووجود دكتاتور سورية بمشاهد في الخلفية لانتشار صوره وكأنه مالك المكان.
يتحدث أبو قاسم عن الصعوبات الإنتاجية التي كان مصدرها الأساسي الخوف، فاضطر إلى إجراء تعديلات كبيرة على النص الأصلي هرباً من المسائلة، وأجبر على حصر أيام التصوير بثلاثة، ما جعله يجبر على إلغاء عدد من الشخصيات، لهذا لم نر السمكة تتعرف إلى فتاة في دمشق كما يقول، فلم تناسب أوقات التصوير أحداً.
ورغم امتلاكه "تصريح تصوير"، وهو إذنٌ يؤخذ عن طريق مؤسّسة فنية أو إعلامية، ويُدرس في الأفرع الأمنية ليسمح لصاحبه بالتصوير في الشارع، فإن وجود هذه التصريح لم يمنع عنه التوقيف والمساءلة، فخلال ثلاثة أيام أوقف عناصر الأمن طاقمَ العمل أكثر من أربع مرات في الشوارع، ما صعّب على الفريق العمل. وينظر مخرج ومؤلف الفيلم إلى العمل على أنه نتاج جمعي، فالطروحات المقدمة فيه هي آراء الفريق، وحتى الممثلون كان لهم حصة في تقديم طرحهم عن المدينة وكيفية تعاملها مع كائن كالسمكة.
يُعرض الفيلم على منصة اتجاهات للثقافة والفنون حتى 11 يونيو/حزيران الحالي، ويسعى المخرج إلى استكمال مشروعه بتقديم جزء ثانٍ يتحدث عن شخصية السمكة بوصفها لاجئة في لبنان. يرى أفراد العمل السمكة على أنها "كائن حرّ" قادر على اتخاذ قرار الهرب في البحر، القرار الذين لم يستطيعوا الوصول إليه، وتقف في وجههم العديد من المعوقات لعبوره، منها الوثائق الرسمية؛ فمخرج العمل يحمل وثيقة سفر (لاجئ فلسطيني سوري) تحرمه حق التنقل بحرية، والعالقون في دمشق محصورون في فضاء مكاني محدود، ولم يعلموا متى سينكسر هذا الحبس.

أخبار ذات صلة.


