في تعيين آيت وعرابي مديراً للأمن في الجزائر
عربي
منذ 6 ساعات
مشاركة

بين غياب صور لحظة تنصيب العميد عبد القادر آيت وعرابي (الجنرال حسّان) مديراً عاماً للأمن الداخلي في الجزائر، وبثّها في اليوم التالي، تكثّفت جاذبية الحدث بعدما فُقد الإيمان والثقة في الجزائر، إلى درجة الإحساس بأن حقل الرموز تصحّر إلى الأبد، بسبب عوامل وأسبابٍ كثيرة، ليس أقلّها طغيان الأفعال والأقوال الغزيرة، التي تشكّك وتدمّر وتحرف وتتطاول، وتؤسّس لثقافة النسيان والمحو والتشويه، والتحطيم الذي طاول هاته الرموز من لدن الأدعياء ورواد "السوشيال ميديا"، ومن يُقال إنهم مؤثّرون، من دون أن ننسى ما يُحاك من دسائسَ ومكائدَ هنا وهناك، داخلياً وخارجياً. في خضم هذا، جاءت عودة العميد آيت وعرابي من الغياب أشبه ما تكون بخضّة كان ينتظرها أمهر المراقبين على أحرّ من الجمر، ليس لأنها طالت، بل لأنها برهان ساطع على أن هؤلاء الرجال حين يستدعون، ولو كانوا في بروج مشيّدة، سيكونون في مقدّمة من يستجيب، وفي بالهم الواجب المقدّس الممهور بدم التضحيات.
كغيره من القادة الكبار للمؤسّسة الأمنية الجزائرية، لا يُعرف كثيرٌ عن القائد الجديد للأمن الداخلي، فالمعلومات غير وافية وغير شافية، بل شحيحة، ولا تشفي الغليل ولا ترضي. الرجل مغلّفٌ بالأسرار، ومبطّنٌ بالغموض، ومتخفٍّ في الظلال. قاد أعقد العمليات وأخطرها في أزمنة الإرهاب والموت. وهو الوحيد، إن لم يكن الأخير والأكثر ندرةً، الذي أخرج الفريق أوّل توفيق، الأسطورة الصامتة للمخابرات، من كمون العزلة والسكون، في وقتٍ ظنّ فيه كثيرون أنه لا يُرى ولا يُسمع. كتب عن الرجل رسالة شهيرة نشرت في نطاق واسع، دافعت عنه في أحلك مرحلة، عندما زُجّ في ظروف ملتبسة وغامضة في السجن. ابتلع الواقع المحيّر سجنه، وسجن عديدون من الشخصيات من مختلف مناحي الشأن العام، الذي فرضه الفريق قايد صالح، الرجل الأقوى في المؤسّسة العسكرية، في أثناء إدارته أخطر فترة عاصفة وأكثرها أهميةً، بدأت مع الحراك الشعبي (2019)، وانتهت بانتخاب عبد المجيد تبّون رئيساً للبلاد. كانت تلك برهة أصيب فيها الفريق قايد بلوثة العظمة والنرجسية القاتلة، وسيطر على الجميع.

أجهزة الأمن الجزائرية غير مستقرّة ومضطربة منزوعة الصلاحيات إلا في حدود معيّنة

كان العميد آيت وعرابي يدرك قبل الحدث (وفي راهنه وبعده) أن واجبه بوصفه عسكرياً منضبطاً يدفعه إلى احترام القرارات العليا للدولة، حتى ولو كانت جائرةً وظالمةً ومنهكةً وغير منطقية. وهي طينة نادرة ستتبدّى عندما يدخل السجن العسكري في محكومية امتدّت خمسة أعوام، من دون أن يحتجّ أو يتذمّر أو ينطق بالسوء أو يخرق الأرض. ولما خرج من السجن، عاد إلى بيته في هدوء وطمأنينة وراحة ينشدها بين الأهل. ربّما من هذا المنطلق يمكن فهم دلالات الجاذبية التي أوجدها حدث التعيين في أذهان من تابعوها عبر الوسائط ووسائل الإعلام المتنوّعة، حتى أن صديقاً اشتغل معه فتراتٍ طويلةً فوجئ بكمّ هائل من الاتصالات التي غابت من هاتفه، ولم يسمع أصوات أصحابها منذ سنوات، عادت لترنّ، وكادت أن تفجّر هاتفه. بل اتصلت به أخته للاستفسار والبحث عن شيء ما يخصّ الرجل؛ هل عاد فعلاً؟... نعم، عاد، حتى إن كان السؤال يثير الدهشة والحيرة في آن واحد.
وكما خلخل سجنه دائرةَ من يعرفه وعمل معه، خلخلت عودتُه أيضاً كثيرين، بعدما تواصل معه من يملكون مفاتيح القرار الفعلي للحكم، وعرضوا عليه فكرة تولّي منصب مدير جهاز الأمن الداخلي. تردّدت أنباء أنه طرحها بين مدّ وجزر، ونقاشات عميقة، قبل أن يعود إلى قلب المؤسّسة العسكرية نافذاً ببدلة جديدة، تجلّت ربّما بشروط وضعها أكثر صرامة وحدّة. وبحسب ما يقول العارفون به وبشؤونه وبأسلوب عمله، لم يكن ليقبل بالمنصب جزافاً، ولن يقبل بعد الآن بسياسة الإملاءات التي بعثرتها في الجهاز الأكثر حساسية قوىً وأذرعٌ ومصالحٌ، وحتى شخصيات من خارج الجهاز، بسبب نفوذ بعضها عند صاحب القصر. وقد وصل الأمر في إحدى المرّات إلى واقعة توبيخ أحد المكلّفين بمهمّة في الرئاسة لأحد كبار الضبّاط.
أحدث تعيينه اختراقاً واسعاً للسرديات المحشورة والمستكينة في كثير من مراكز التجاذبات، التي أثقلت كاهل النظام، لدرجة أن كثيراً من الملفّات، التي كانت في قبضة الجهاز (وكان لاعباً ماهراً فيها) ضاعت بوصلاتها في متاهات التدخّلات. أكثر من ذلك، كان الكلّ يعلم أننا ضيّعنا كثيراً في العقم والرأس الخشن والعناد، وأننا كنّا نسبح ضدّ التيّار العابر بضجيجه عند الأبواب، ولا أحد أوقف سيلان المعالجات الخاطئة، فكانت الكلفة غالية. أجهزة أمنية غير مستقرّة ومضطربة، منزوعة الصلاحيات إلا في حدود معيّنة، رُسمت لها عن جهل وغباء وحمق وتبجح. فكيف سيدير العميد الجهاز؟
لا يقتصر الجواب على الفعّالية والإقدام والقدرة الاستثنائية للرجل في استشراف الأحداث بعمق يتجاوز ما تتيحه التقارير، بل يتعدّى ذلك إلى أسلوبه الفريد في العمل كما يُروي عنه من تعاونوا معه في الماضي، كان يجلس ساعات طويلة في مكتبه، في وضعية السكون، لا ينبس ببنت شفة، ولا يتحرّك إلا بقدر قليل. كان يحفر وينبش في خفايا أخطر المعلومات والملفّات، حتى تستوي له صافيةً، خاليةً من الشوائب والزوائد التي تعلق بأعتابها، قبل أن يصوغها في عقله بيضاءَ من غير سوء، ويضعها مباشرةً على مكتب مرؤوسه الوحيد آنذاك، الفريق أوّل محمد مدين، الشهير بلقب توفيق.
كان ذلك في الماضي القريب، أمّا اليوم فهو يتربّع على رأس الجهاز مباشرة، بلا وسائط أو حواجز أو مطّبات تعوق حركته. الظن أنه سيستدعي خيرة الضباط الذين كانوا يشكّلون فريقه، فالمرحلة الراهنة تتطلّب انتباهات جديدة، وحتى خيالاً يبتكر، يُخرِج الأجهزة الأمنية من حالات الصدع إلى آفاق واسعة من التحسين والإصلاح، إلى هُويَّة متجدّدة ستبدأ معه في هذه المرحلة الحساسة المشتبكة بالتحدّيات، وتحتاج إلى من يمتلك القدرة على تفكيك غلاظة خيوطها.

كما خلخل سجن العميد آيت وعرابي دائرةَ من يعرفه وعمل معه، خلخلت عودتُه أيضاً كثيرين، بعدما تواصل معه من يملكون مفاتيح القرار الفعلي للحكم

في لحظة التعيين وما تلاها، لا نعرف من ارتجف أكثر، الواثقون من ألا شيء سيتغير في سماء الجزائر، وأن كلّ شيء دان لهم، وأن كلّ خطاب أو حديث عن أخطائهم لن يجد من يقف ضدّهم، أم أولئك الذين صبروا على الصدمات التي حدثت في صروح النظام، وتاهوا في الأنفاق، وهم اليوم في قمّة سعادتهم برؤية رجل يمكنه أن يخطو بالجهاز، كما زميله في المخابرات الخارجية، العميد موساي، وغيرهما من كبار ضبّاط المؤسّسة، يخطون إلى أفق مفعم بالنجاحات.
الصور القليلة التي رافقت تنصيب العميد عبد القادر آيت وعرابي، طالما نقّب عنها المرجفون والفضوليون، وأخرجوا لنا صوراً زائفةً، تدور وتدور لرجل لم يرفع عينيه عن الأوراق المفروشة أمامه، يستمع إلى الكلمة التوجيهية للفريق أوّل، السعيد شنقريحة، أمام الإطارات العليا للأجهزة التي حضرت الحدث. وستكون الصور في رمزيتها القصوى صادّةً للأذى الذي لحق بعظمة المؤسّسة العسكرية، وعظمة رجالها، الذين سيظلّون كما هم على قلب رجل واحد، مهما كان حجم المخاطر التي تهدّد الجزائر، وليس العميد إلا واحداً منهم.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية