"الذراري الحمر": مقاربة سينمائية ترسم معالم العنف وأثره
عربي
منذ أسبوع
مشاركة

 

اختار التونسي لطفي عاشور، في روائيّه الجديد "الذراري الحمر (الأطفال الحمر)" (2024)، جريمة مروّعة حصلت سنة 2015 في جبل "مغيلة" (منطقة "سليانة"، مقاطعة سيدي بوزيد). مُعيداً صياغتها وقراءتها وتفسيرها، بحسب رؤيته السينمائية والفنية.

القصة الحقيقية تتعلّق بجريمة قتل الطفل مبروك سلطاني، راعي غنم من أسرة فقيرة في منطقة نائية، على أيدي أفراد جماعة إرهابية تنتمي إلى تنظيم الدولة الإسلامية. صُوّرت عملية القتل البشعة، وبُثّت على وسائل التواصل الاجتماعي. بعد 18 شهراً، قامت الجماعة نفسها بتصفية شقيقه الأكبر خليفة، بالطريقة نفسها: قطع الرأس، وفصله عن الجسد.

أجّجت الجريمة مشاعر التونسيين، وكل من عرف تفاصيلها، وأحدثت زلزالاً سياسياً، خاصة أنّ سبب التصفية، بحسب بيانات عدّة، كامنٌ في تعاون الضحيتين مع الجهات الأمنية، ومدّها بمعلومات عن تحرّك الجماعات الإرهابية، وتقفّي آثارها بحجّة رعي الأغنام، ما نفته تلك الجهات. لكنّ هذا لا يُبرّر الجريمة النكراء، التي أعاد الفيلم سردها بطريقته.

السابق ضروريّ لفهم سياق "الذراري الحمر" وأبعاده، فتوليد الدراما وحياكة الشكل السردي كانا من منطلقات الواقعة/الجريمة، والظروف الأخرى تحصيل حاصل، خدمت الواقعة/الجريمة وأبرزتها بهدف إقناع المتلقّي بها. نجح عاشور في معالجته الإخراجية، لأنّه استطاع إعادة تجسيد الألم بأثر رجعي، ولم يعتمد على ما وفّرته القصة الحقيقية فقط، بل أضاف عليها قصصاً ثانوية، ساهمت في صنع إيقاع سلس، أذاب الملل الدرامي، رغم أنّ مدّة الفيلم تبلغ 101 دقيقة. هذه المدة كافية لنجاح العمل، إذا كان صوغه جيّداً.

 

 

تجاوز عاشور فخّ الفشل لاختياره فضاءات بانورامية مفتوحة، صَوّر فيها الأحداث (فويتشخ ستارون)، ونقل تضاريس الغابة وتشكيلاتها الجافة، ما ساهم في خلق نوع من الألفة بين فضاء الأحداث والقصة، وعكس تلاحم الشخصيات مع بيئتها البسيطة، التي تعتمد عليها للعيش، كالرعي الذي يُعتبر مورداً أساسياً. لكنْ، بعد سيطرة الجماعات الإرهابية على كثير من تلك الفضاءات، تحوّلت حياة الناس إلى جحيمٍ لا يطاق، ففقدوا إحساس الأمان الذي جعلهم يرتبطون بتلك الأرض قروناً عدّة.

"الذراري الحمر" ملحمة حزن وحسرة على سكّان الضواحي، الذين كانوا دائماً ضحايا صراعات سياسية وأمنية، يتحوّلون بسببها إلى أدوات، لأنّ كلّ جهة تحاول استغلالهم لمصالحها، ولا أحد ينتبه إلى مطالبهم واحتياجاتهم الكثيرة، كحال الطفل أشرف (علي هلالي)، الذي وجد نفسه يحمل رأس ابن عمه نزار (ياسين سمعوني)، بعد قطعه في الجبل، لإيصاله إلى عائلته، فيعاني صراعاً كبيراً، لأنه لم يملك شجاعة المواجهة. تساعده صديقته آية (وداد دبيبي)، التي يفترق عنها لاحقاً، ليواجه مصيره المحتوم، ولتبدأ بعدها الأسرة، رغم صدمتها الكبيرة، محاولة استرجاع جثة نزار من الجبل، قبل أنْ تلتهمها الذئاب.

توفّق عاشور في خيارات فنية عدّة، خاصة الممثلين الذين أدّوا أدوار أشرف ونزار وآية، فملامحهم عكست طبيعة الفرد الريفي. ربط الخيارات بأحلامهم وحواراتهم المتعلّقة أساساً بالرعي، ومشاق الدراسة، والحب البريء، ما أضفى نوعاً من واقعية القسوة والألم، وأوجد تواصلاً بين المتلقّي والشخصيات.

لم يكتفِ "الذراري الحمر"، الفائز بالتانيت الذهبي في الدورة الـ35 (14 ـ 21 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"أيام قرطاج السينمائية"، برسم معالم العنف وعكسه، بل جسّد ذلك على نفسيات الأطفال وأحاسيسهم. بهذا، عكس عاشور جماليات بصرية ومعرفية وفنية، إضافة إلى اشتغاله على الرمز، وهذه الجزئية تسمح بتعدّد القراءات، أو إدانة الجهات التي كانت سبباً مباشراً في تلك الجرائم، مع طرح أسئلة عدّة، منها أسباب جعل طفل كأشرف، متفوّق في دراسته، يتوقّف عن متابعتها والالتحاق بالرعي، وهذا غير مضمون، ولم يجلب سوى الويلات. الإجابة واضحة: التهميش وقلّة الفرص وانعدام المرافق تُسبّب كلّها توسيع دائرة الفقر والجهل، وبالتالي سهولة غسل الدماغ بأفكار غريبة وهدّامة.

"الذراري الحمر" (كتابة نتشا دو بونشارة ودرية عاشور وسيلفان كاتونوا، إضافة إلى لطفي عاشور) من الأفلام المهمّة التي استطاعت مقاربة العنف والتطرّف، وإبراز مآسيهما الكثيرة على الفرد والمجتمع، بتفكيك العلاقة بينهما، وتحميل كلّ طرف مسؤولية ما يحدث وسيحدث. أي أنّ صوغ الفيلم مهمّ وفارق، أفرز اتجاهات يُعتمد عليها لرسم معالم مستقبلية، تخدم الجميع.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية