شجاعة ليلى سويف
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

يمثّل فيلم "البريء" (1986) للمخرج عاطف الطيب واحداً من أهم الأفلام المصرية التي قاربت بذكاء مفهوم العدو الذي لم يعد إسرائيل، بل "الداخل" المعارض للنظام. وفيه قدّم أحمد زكي دور أحمد سبع الليل، الفلاح البسيط الذي يجد نفسه في خضم صراع أكبر منه (زمن الأحداث في الفيلم يعود إلى انتفاضة الخبز عام 1977)، يتعلّق بتبدّل مفهوم العدو؛ فإذا هو من يتظاهر ضد النظام، فينحاز بفطرته إلى بديهيات المجتمع المصري، ويضطر تحت ضغط الصراع في داخله إلى إطلاق النار على حرّاس السجن الصحراوي الذي يخدم فيه، وهي نهاية الفيلم التي حُذفت بأوامر لجنة رقابة ترأسها وزير الدفاع المصري في حينه، عبد الحليم أبو غزالة، ووزيرا الداخلية والثقافة.
العدو ليس حسين وهدان، الجامعي الذي اعتُقل على خلفية مشاركته في مظاهرات الخبز (العيش)، ابن قرية سبع الليل الذي يرفض المشاركة في ضرب وتعذيب الطلاب المعتقلين، خصوصاً ابن قريته، فليس هؤلاء هم أعداء الوطن في أيّ حال.
حسين وهدان هو أيضاً علاء عبد الفتاح، الذي ما زال معتقلاً في سجن النطرون، وهو ابن ليلى سويف التي تحتضر منذ أكثر من أسبوع بعد استئنافها إضراباً عن الطعام للضغط على المسؤولين، في بريطانيا حيث تعيش حالياً وتحمل جنسيتها، وفي مصر-الوطن الأم الذي لم يعد يتسع لأحلام بنيه وبناته.
في الصور، تظهر سويف، وهي أكاديمية مرموقة ومعارضة سابقة منذ أيام الرئيس الراحل أنور السادات، امرأة كبيرة في السن (1956)، بشعر أبيض وجسم نحيل جداً، مستلقية على أحد أسرّة مستشفى سانت توماس في لندن.
قبل نحو أسبوع، أطلقت بنتاها والمتضامنون معها عبر العالم نداء عاجلاً للمسؤولين في لندن بالتدخل، فالسكر في الدم انخفض إلى مستوى متدنٍ جداً بما يهدّد حياتها، لكنّ السلطات المصرية التي تستطيع إنقاذ حياة سويف بإطلاق نجلها من محبسه ما زالت على عنادها، رغم أن من شأن مبادرة صغيرة لكن كبيرة في دلالاتها من الرئيس عبد الفتاح السيسي تحقيق أمنية العمر لامرأة تحتضر، وربما تغيير نظرة السلطات لكثير من المعارضين ممن اعتقلوا لمجرد رأي قالوه أو مظاهرة شاركوا فيها، وكانت ضدّ إجراء حكومي وليست ضد مصر، الوطن والبلاد والأهل والهوية.
تقدّم ليلى سيف نموذجاً نادراً في المحيط العربي للمرأة والأم معاً، فصحيح أنها أضربت عن الطعام من أجل نجلها، لكن الأخير ليس حالة فردية، بل يمثّل نحو 60 ألف سجين رأي في بلاده، ويحتاج الأمر إلى شجاعة استثنائية من ذويهم لتكرار ما تفعله سويف في بريطانيا، فهناك تستطيع الاعتصام لمدة ساعة كل أسبوع أمام مقرّ الحكومة في 10 داوننغ ستريت من دون أن تتعرّض للطرد والإخلاء الجبري، بينما قد يتعرّض ذوو المعتقلين داخل مصر للكثير من العسف والاضطهاد وربما الملاحقة لو فعلوها أمام قصر الرئيس السيسي أو مقرّ حكومته أو حتّى أمام وزارة العدل.
وعلينا ألّا ننسى أنّ الإفراج عن آية حجازي، الأميركية المصرية التي اعتُقلت على خلفية تأسيسها جمعية تُعنى بأطفال الشوارع، تطلّب تدخّل الرئيس الأميركي دونالد ترامب شخصياً في ولايته الأولى لدى نظيره المصري، وهو ما لم ينجح فيه كير ستارمر (رئيس الوزراء البريطاني) الذي هاتف السيسي أكثر من مرة لإطلاق علاء عبد الفتاح، الذي أنهى حكمه بالسجن فعلياً في سبتمبر/أيلول الماضي.

ولم تفلح مناشدات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن والمستشار الألماني السابق أولاف شولتس والأمين العام للأمم المتحدة وسواهم من كبار الشخصيات العالمية، ما يعني أن العناد وليس إنفاذ القانون هو ما يسيطر على ذهنية مَن يديرون ملف علاء عبد الفتاح، وهو ما لا يليق بالدول والجماعات الإنسانية لا في الأمس ولا اليوم أو غداً.
ما الذي ألجأ المجنّد أحمد سبع الليل إلى رفض الأوامر العسكرية؟ ولماذا لم يُترك له أي خيار سوى السلاح للتعامل مع حرّاس السجن؟ إنه غياب الخيارات الكريمة التي تحفظ للمظلوم حقه في إنسانيته وكرامة وجوده، والمأمول أن تصغي السلطات في القاهرة لصوت العقل، وأن تعرف معنى أن تخاطر أم شجاعة اسمها ليلى سويف بحياتها من أجل الإفراج عن ابنها، فليس ثمة عناد أقوى من عناد الأمهات ومحبتهنّ.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية