تجريف في تونس للحياة السياسية
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

حين قدم الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ أكثر من ست سنوات إلى الحكم، وقبل أن ينقلب على الدستور ويلغي تماماً كل التراث السياسي الذي شهدته البلاد منذ عشرينيات القرن الفارط التي عرفت فيها النخب السياسية الأحزاب والجمعيات والصحافة، كان عدد الأحزاب المعترف بها قد ناهز 250 حزباً. هذه الظاهرة عرفتها جل البلدان التي تغادر تجربة الحزب الواحد الحاكم، ويظلّ العدد يتراجع من سنة إلى أخرى. في مفارقة محيّرة، صعد سعيّد الى سدّة الحكم من دون أن يكون وراءه أي حزب، بل كان لا يخفي في التصريحات التي قدّمها إلى الصحافة تبرّمه بالأحزاب التي لا يذكرها إلا نادراً، وإذا ما ذكرها ففي صيغةٍ سلبيةٍ، حيت يشير إلى انتهازيّتها وتحايلها.

استفاد الرئيس من تبرّم الرأي العام بالأحزاب الذي عدّها مسؤولة عن الفوضى والتناحر اللذين وصلت إليهما تونس. ولذلك ساندته جموع كبيرة، خصوصاً في الدور الثاني الذي واجه فيه رجل الأعمال والإعلامي نبيل القروي الذي أسس حزب "قلب تونس"، على أمل أن يرث حزب "نداء تونس" بعد موت قائده ومؤسّسه الباجي قائد السبسي. حين ألغى دستور الثورة، وفكّك كل بناء الانتقال الديمقراطي الذي راكمته البلاد خلال أكثر من عقد: المجلس الأعلى للقضاء، الهيئات الدستورية المعنية بمكافحة الفساد، والمعنيّة بالإعلام والشفافية... إلخ. لم يشر مطلقاً إلى الأحزاب، ولكنه اتهمها ضمناً بالرشوة والفساد والمحسوبية، مشيراً إلى ظواهر مرضية عديدة، على غرار السياحة الحزبية والمصالح الخاصة والمحسوبية... إلخ.

حملات تشويه تكاد تكون رسمية، مرفقة بشيطنةٍ مارستها حشود واسعة من مناصري الرئيس

بعد ست سنوات من صعوده إلى الحكم، وبعد إعادة انتخابه قبل أشهر، وبعيداً عن قراءة لوحة القيادة التي كشفت عنها تقارير البنك الدولي وتترجمها الوقائع كل يوم: نسب البطالة التي ظلت تراوح عند 15,7%، بحيث تتضاعف حشود العاطلين كل سنة لتصل تقريباً إلى ما يناهز المليون، ثلثهم من خرّيجي الجامعات، من دون اعتبار غلاء الأسعار المشطّ، خصوصاً في المواد المعيشية التي تضاعفت أثمانها في أقل من سنة، رغم أنها سنة ممطرة، ارتفع فيها إنتاج البلاد من الحبوب والخضروات واللحوم... إلخ.

يظلّ في هذا المشهد السياسي السوريالي، والذي لم يشهد التونسيون مثله منذ استقلالهم (1956)، الرئيس هو اللاعب الوحيد . لقد اختفى جل اللاعبين الآخرين اضطراراً أو اختياراً. جرى اقتياد العديد من من قادة الأحزاب إلى السجون بتهم مختلفة، تتعلق عموماً بالتآمر والفساد، أما الجمعيات والمنظّمات فقد أبدت تفاؤلاً حذراً في البداية، ولم يخف آخرون تحمّسهم لـ"الخطوات التصحيحية" التي أقدم عليها قبل أن تكتشف أخطاءها التي قادتها إلى تلك المساندة، خصوصاً وقد رافقتها بيانات أصدرها جامعيون مرموقون ساندوا فيها الانقلاب، واعتبروه إنقاذاً للوطن والدولة.

مساحة فراغ في تونس لا أشجار فيها سوى ظلال السلطة. جرى جرف كل شيء تقريباً

جرى استهداف جل هذه المنظمات لاحقاً بحملات تشويه تكاد تكون رسمية، مرفقة بشيطنةٍ مارستها حشود واسعة من مناصري الرئيس التي تصوّرها طابوراً خامساً يخذل الرئيس في معركة تحريره الوطني التي يخوضها ضد المتآمرين والخونة والفاسدين، أو بتتبعات قضائية وإدارية جمّدت تقريباً أنشطتها. اختفت تقريباً كل مظاهر الحياة السياسية الحقيقية التي يفترضها الحد الأدنى من حياة سياسية حقيقية. لم يعد حلم التونسيين استعادة انتقال ديمقراطي جرت مصادرته وشيطنته، بل غدا استرجاع حدٍّ أدنى من حياة سياسية شهدتها بلادهم، حتى في أحلك ظروف الدكتاتورية التي مرّوا بها: تعدّدية حزبية ولو شكلية، برلمان يلعب دوره المعروف، أي تمثيل الناس وسن القوانين وجمعيات تملأ تلك المساحة الواسعة بين الدولة ومواطنيها.

يملأ قيس سعيّد حالياً كل المساحات التي جرى إخلاؤها وإفراغها، ليقول للشعب التونسي "ها أنا حاضر في كل هذا وذاك، لا تفصلني عنكم أي حواجز". والحقيقة أنه أبعد عنهم مما يتصوّر. غدا حضورُه المكثف في الإعلام الرسمي صوتاً للدولة أو بالأحرى صوتاً له، بعد أن توهم التونسيون تحرير الإعلام. كان الخبر الناقل للأنشطة الرئاسية في عشرية الانتقال الديمقراطي الرابع إن كان ذلك ضرورياً، وها قد عادت أنشطة الرئيس تملأ الصفحات الأولى من الصحف، كما احتلت حتى أبسط مقابلاته مع وزرائه المساحة الفضلى من أخبار التلفزة والإذاعة الرسميتين. أما المنظمّات التي وقفت شوكة في حلق حكام عشرية الانتقال الديمقراطي فقد لاذت بالصمت. يقول بعضهم: اتركوه يعمل اتركوه يمرّ، ممنّين النفس بأن النظام الحالي خلصهم من خصومٍ لم يقدروا على هزيمتهم عبر صناديق الاقتراع. أما البقية الآخرون فيعتقدون أن في وسعهم تجنّب الأسوأ. والحال أنهم لا يدركون أن البلاد لن تستعيد الحد الأدنى من معايير بلد يحيا القرن الواحد والعشرين سياسياً. كان معمّر القذافي يبشّر بـ"ديمقراطية الشجرة"، مستوحياً في ذلك من التراث الأفريقي الحقيقي، أو المتخيّل، فكرة التشاور والحلول التوافقية والحوار العفوي. وقد نكون ربما تدحرجنا إلى ما تحت هذه الديمقراطية، لأننا قد جرفنا كل شيء، بما فيها تلك الشجرة التي قد نلتقي تحتها... هناك مساحة فراغ لا أشجار فيها سوى ظلال السلطة. لقد جرى جرف كل شيء تقريباً.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية