“عدو النخب الجامعية”.. كيف يؤدي عناد ترامب إلى هروب العقول وتدمير التعليم الجامعي؟
تقارير وتحليلات
منذ يومين
مشاركة

في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أطلق الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ما عُرف بـ”الثورة الثقافية”، تحت ذريعة القضاء على البرجوازية داخل الحزب الشيوعي. فأطلق الحرس الأحمر ليُشنّ حملةً شرسةً ضد النخبة الصينية، اعتدى على الأساتذة، ووضع قبعاتٍ على رؤوسهم، وأرسلهم إلى المزارع والمصانع للقيام بأعمالٍ شاقة.

وبعد مرور عقود وتغير وجه الصين، خرج “تشن شياولو”، أحد أعضاء الحرس الأحمر سابقًا، في عام 2013 ليعتذر علنًا عن مشاركته في تلك الحقبة، واصفًا إياها بأنها “فترة لا تُحتمل، لكنها ستظل تطاردنا مدى الحياة”.

اليوم، في أمريكا، يرى كثيرون أن الرئيس دونالد ترامب يسير على نهج مشابه، لكن بأسلوب أمريكي. إذ أطلق العنان لإدارته لتشن حملة ضد التعليم العالي والأبحاث العلمية، بدعوى محاربة شرور النخبوية، كما جاء في مشروع “2025” وشعارات مثل “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا”.

ضمن هذه الحملة، قلّصت إدارته 800 مليون دولار من التمويل المخصص لجامعة جونز هوبكنز، ووجهت ضربة أقوى وأعرق الجامعات الأمريكية هارفارد، بخفض 2.6 مليار دولار من المنح البحثية الفيدرالية، ومحاولة منعها من تسجيل الطلاب الأجانب – (وهو القرار الذي أوقفه القضاء لاحقًا.)

فهل نحن أمام حملة تدمير لأحد مصادر قوة أمريكا: جامعاتها ونخبها العلمية؟ وما العواقب الحقيقية لذلك على التعليم العالي في أمريكا؟

الباحثون يغادرون والمنافسون يتحركون

لطالما جذبت الجامعات الأمريكية، وعلى رأسها جامعة جونز هوبكنز، نخبة العقول من مختلف أنحاء العالم، بفضل حرية البحث والتنوع الأكاديمي. هذا المناخ الفريد خلق ثروات تقدّر بتريليونات الدولارات، كما يصفه أولي مولر، عالم الأعصاب الذي ترك ألمانيا وجاء إلى الولايات المتحدة قبل عقود، بحثًا عن فرص البحث والاكتشاف الفريدة التي كانت توفرها أمريكا آنذاك.

إذ يحكي مولر عن تجربته الأولى في أمريكا قائلاً إنه لم يشعر بالغربة، بل وجد ترحيباً وفر له بيئة لم يشعر أنه أجنبي. فبعد حصوله على الدكتوراه وعمله في معهد سويسري لبضع سنوات، اختار العودة إلى الولايات المتحدة لمواصلة مسيرته العلمية، وأصبح مواطناً أمريكياً. إذ يقول: “لقد وفرت لي أمريكا بيئة ديناميكية مكنتني من القيام بأشياء لم أستطع القيام بها في أي مكان آخر”.

لكن لا شيء في هذا العالم يدوم. فمع خفض إدارة ترامب تمويل الأبحاث لجامعة جونز هوبكنز وغيرها من الجامعات العريقة، يقول مولر إن كبار الباحثين الأوروبيين في الجامعة بدأوا يتلقون عروضاً مغرية من مؤسسات أجنبية. “هل أنا مغرٍ؟ بالتأكيد”، يقول مولر. “وإذا لم أعد قادرًا على العمل هنا، سأبحث عن مكان آخر”.

"عدو النخب الجامعية".. كيف يؤدي عناد ترامب إلى هروب العقول وتدمير التعليم الجامعي؟
جامعة جونز هوبكنز – shutterstock

وهذا ليس كلام مولر وحده، إذ ترى العديد من التقارير الصحفية الأمريكية، أن الرابح الأكبر حالياً هو الصين. إذ تُنفق الصين مبالغ طائلة على الأبحاث، لا سيما في مجالي الذكاء الاصطناعي والطب الحيوي، وتسعى لجذب العقول التي يضيق عليها ترامب، فجامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا، على سبيل المثال، أعلنت مؤخراً عروضاً غير مشروطة، وإجراءات قبول مبسطة، ودعماً أكاديمياً مخصصاً لاستقطاب طلاب هارفارد الدوليين الذين تقطعت بهم السبل بسبب قرارات الإدارة الأمريكية.

أوروبا أيضاً بدأت التحرك لاستغلال ما وصف بـ”حماقة ترامب“، إذ خصص الاتحاد الأوروبي نصف مليار دولار لإعادة استقطاب العلماء من أمريكا، وأعلنت جامعة فرنسية نفسها “ملاذاً آمناً للعلم” فور بدء الحملة الأمريكية ضد النخب الأكاديمية، كما بدأت دول عدة بوضع برامج خاصة لاستقطاب العلماء من الولايات المتحدة، مستغلة التضييق الذي فرضته إدارة ترامب على البيئة الأكاديمية.

وترى العديد من التقارير، أن ترامب لا يكتفي بمهاجمة الجامعات فحسب، بل يستهدف النظام البيئي العلمي بأكمله. ووفقاً لمجلة ساينس العلمية، فإن ميزانيته الجديدة تتضمن تخفيضات هائلة تطال المؤسسات الأساسية للبحث العلمي: 37% من تمويل المعاهد الوطنية للصحة، أكثر من 50% من المؤسسة الوطنية للعلوم، و39% من مراكز السيطرة على الأمراض. حتى وكالة ناسا ستخسر 53% من تمويلها العلمي، بينما تُخفض ميزانية الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بنسبة 24%.

وعند إعلان هذه الميزانية، علّق السيناتور جون أوسوف (ديمقراطي من جورجيا) قائلاً: “سندفع ثمن هذا، ليس فقط بأرواح الناس وحياة الأطفال الآن، بل سوف ندفع ثمن هذا لمدة قرن من الزمان”.

مجلة الإيكونوميست وثقت بالفعل مؤشرات الضرر الناتج عن هذا “التطهير العلمي”. وبالاستناد إلى بيانات من سبرينغر نيتشر، أفادت المجلة بأن طلبات التوظيف المقدمة من باحثين أمريكيين للعمل في الخارج ارتفعت بنسبة 32% في الربع الأول من عام 2025 مقارنة بالعام السابق. كما أظهر استطلاع شمل 1200 باحث أمريكي أن 75% منهم يفكرون جديًا في مغادرة وظائفهم داخل الولايات المتحدة.

حرب ترامب على الطلاب الأجانب تهدد مستقبل كل الجامعات الأميريكية

وفي مقال آخر لمجلة الإيكونوميست، أشارت إلى أن القرار الحكومي بإيقاف مقابلات التأشيرات الجديدة للطلاب الأجانب، بغض النظر عن مكان دراستهم، له تأثير أوسع نطاقاً على أمريكا نفسها.

فإلى جانب الضرر الذي يُلحقه هذا القرار بسمعة أمريكا وبراعتها البحثية، قد يسفر عبث ترامب بالجامعات الأمريكية عن آثار أوسع بكثير مما كان يأمل، وتوضح المجلة الصورة من زاوية مختلفة، حيث توضح صورة أوسع لأزمة التعليم العالي في أمريكا، والتي بدأت قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض.

"عدو النخب الجامعية".. كيف يؤدي عناد ترامب إلى هروب العقول وتدمير التعليم الجامعي؟
مظاهرات في نيويورك احتجاجًا على اعتقال محمود خليل (أرشيفية) – رويترز

فالجامعات – خاصةً الخاصة منها – كانت تواجه صعوبات مالية متراكمة نتيجة تراجع الإقبال على التعليم الجامعي. فقد انخفضت نسبة خريجي الثانوية الذين يلتحقون بالجامعات مباشرة من نحو 70% عام 2016 إلى 62% في 2022، فيما تشير بيانات وكالة “موديز” إلى أن ثلث الجامعات الخاصة وخُمس الجامعات الحكومية تعاني من عجز مالي.

وترى المجلة أن التغيير الديموغرافي الوشيك سيزيد الطين بلة. فبحسب تقديرات، سينخفض عدد خريجي الثانوية في أمريكا بنسبة 6% بحلول 2030، و13% بحلول 2041، مع تركز الانخفاض في مناطق الشمال الشرقي والغرب الأوسط – حيث تكثر الجامعات.

ويبلغ عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في الجامعات الأمريكية نحو مليون طالب، وهو ما يعادل ضعف العدد المسجل في عام 2000 تقريباً. ورغم أنهم لا يشكلون حلاً جذرياً للأزمة، إلا أنهم يقدمون دعماً مالياً ملموساً، خصوصاً من خلال الرسوم المرتفعة التي يسددونها. ففي بعض الجامعات الحكومية، يدفع الطالب الأجنبي ما يصل إلى ثلاثة أضعاف ما يدفعه الطالب المحلي، مما يجعلهم مصدر دخل حيوي للعديد من المؤسسات التعليمية، خاصة تلك التي تعاني من تقلص التمويل الحكومي.

ورغم ذلك، لا يشكلون سوى 6% من إجمالي طلاب الجامعات الأمريكية، مقارنةً بأكثر من 25% في بريطانيا وكندا وأستراليا. وبحسب المجلة، فالأسوأ أن التوقعات لا تشير إلى نمو قادم في أعدادهم، بل إلى احتمال تراجع حاد، خصوصاً مع القيود التي تفرضها السياسات الأمريكية الأخيرة وتزايد استغلال الفرص من باقي الدول.

وتعكس تجربة بريطانيا جزءاً من هذا الخطر، حيث أدت تغييرات في قوانين التأشيرات مؤخراً إلى انخفاض كبير في أعداد الطلاب الأجانب، ما دفع نحو 40% من جامعاتها العام الماضي إلى توقع عجز في ميزانياتها التشغيلية.

ويحذر التقرير من أن الجامعات الأقل شهرة – والتي تعتمد بشكل كبير على الطلاب الأجانب لتعويض ضعف الدعم الحكومي – ستكون الأكثر عرضة للضرر، خلافاً للمؤسسات المرموقة مثل هارفارد وكولومبيا التي تملك مصادر تمويل متنوعة وقدرة على التكيف، وربما زيادة إيراداتها من خلال جذب الأمريكيين ذوي الرواتب العالية من خارج الولاية. أما الجامعات المتوسطة والصغيرة، فقد تجد نفسها في وضع مالي حرج، خصوصاً إن استمرت الجامعات الكبرى في استقطاب النسبة الأكبر من الطلاب المحليين والدوليين على حد سواء.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية