
يشهد سوق النفط العالمي مرحلة مفصلية، مع تراجع سعر برميل خام برنت إلى ما دون 65 دولاراً، في ظل سياسات أميركية توسعية وضغوط إنتاج جديدة من تحالف "أوبك+"، الأمر الذي يثير موجة من التناقضات الاقتصادية بين مكاسب الدول المستوردة ومعاناة كبار المنتجين، لا سيما في الدول ذات التكاليف الإنتاجية المرتفعة. وتتسبب رسوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمركية، ودعوته إلى مواصلة استخراج النفط، وقرار "أوبك+" زيادة حصص الإنتاج، في تراجع أسعار الخام بشكل غير مسبوق منذ وباء كورونا. وبينما يعد الأمر إيجابياً بالنسبة للمستهلكين إلا أنه ليس كذلك بالنسبة للمنتجين.
ويبلغ حالياً سعر برميل خام برنت بحر الشمال المرجعي على المستوى الدولي أقل من 65 دولاراً، أي أقل بكثير من عتبة 120 دولاراً التي بلغها في 2022 بعد غزو روسيا التي تعد منتجاً رئيسياً للنفط، أوكرانيا. وساهم انخفاض أسعار النفط في تراجع عالمي بمعدلات التضخم، بينما دعّم النمو في بلدان تعتمد على استيراد الخام، على غرار معظم أجزاء أوروبا، وفقاً لوكالة "فرانس برس"، وعلى سبيل المثال، تراجع مؤشر أسعار المستهلك في الولايات المتحدة بنسبة 11,8% من عام لآخر في إبريل/نيسان.
وأعلنت ثماني دول في تحالف "أوبك+" وفي مقدمتها السعودية وروسيا، أمس السبت، زيادة كبيرة جديدة في إنتاج النفط، تعادل ثلاثة أضعاف ما كان مخططاً له سابقاً، واتفقت الدول الثماني على زيادة الإنتاج بدءاً من يوليو/تموز 2025 بإجمالي إضافي يصل إلى 411 ألف برميل يومياً، بعد زيادات مماثلة في مايو/أيار ويونيو/حزيران. وهي وتيرة أسرع من المخطط لها سابقاً، رغم أن زيادة المعروض ضغطت على الأسعار. وأرجعت الدول الثماني القرار، في بيان، في ختام اجتماعها عبر الإنترنت، إلى أوضاع اقتصادية عالمية مستقرة، ومتانة أساسيات السوق حالياً.
ومنذ عام 2022، التزمت السعودية وحلفاؤها في "أوبك+" بخفض إنتاجي طوعي وصل إلى 2.2 مليون برميل يومياً، بهدف دعم الأسعار وسط تقلبات السوق وتداعيات الحرب في أوكرانيا. لكن في ربيع 2025، شهدت الاستراتيجية تحولاً مفاجئاً، ووافقت كل من السعودية وروسيا والعراق والإمارات والكويت وكازاخستان والجزائر وعمان على تسريع وتيرة الإنتاج بدلاً من الرفع التدريجي كما خطط له سابقاً، مما ساهم في تراجع أسعار النفط إلى ما دون 60 دولاراً للبرميل، وهو أدنى مستوى لها منذ أربع سنوات.
النفط الرخيص يخفض التكاليف
وقال خبير الاقتصاد لدى "مركز أبحاث الاقتصاد والأعمال" البريطاني Cebr بوشبن سينغ إن تراجع أسعار الخام "يزيد مستوى الدخل المتاح" الذي ينفقه المستهلكون على "الكماليات" مثل الترفيه والسياحة. وتراجع سعر برميل خام برنت بأكثر من عشرة دولارات مقارنة مع ما كان عليه قبل عام، ما أدى إلى تراجع كلفة مختلف أنواع الوقود المشتقة مباشرة من النفط. وأوضح سينغ لفرانس برس أن ذلك يساعد في خفض تكاليف النقل والتصنيع التي يمكن أن تساعد، على الأمد المتوسط، في خفض أسعار السلع الاستهلاكية بشكل أكبر.
لكنه لفت إلى أنه بينما يعد تراجع أسعار الخام نتيجة جزئية لسياسات ترامب التجارية، فإن توقع التأثير الصافي على التضخم يبقى صعباً، في ظل زيادات محتملة في تكاليف مدخلات أخرى، مثل المعادن. وأضاف سينغ أنه في الوقت ذاته، "يمكن للنفط الأقل ثمناً أن يجعل مصادر الطاقة المتجددة أقل تنافسية، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تباطؤ الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة".
وقال المسؤول عن استراتيجية السلع الأساسية لدى "بنك ساكسو"، أوله هانسن، إنه مع تراجع الأسعار فإن الجهات الخاسرة بلا شك هي البلدان المنتجة للنفط "خصوصاً المنتجين ذوي التكلفة العالية المجبرين بناء على الأسعار الحالية الأقل على تخفيف الإنتاج في الأشهر المقبلة". وقال المحلل لدى "رايستاد إنرجي" خورخي ليون إن بلوغ سعر برميل النفط 60 دولاراً أو أقل "لن يكون أمراً رائعاً بالنسبة لمنتجي النفط الصخري" أيضاً. وأوضح لفرانس برس أن "تراجع أسعار النفط سيضر بالتنمية لديهم".
أكثر المتضررين
وأعلنت بعض الشركات التي تستخرج النفط والغاز الصخريين بالفعل عن خفض الاستثمار في حوض برميان الواقع بين تكساس ونيو مكسيكو. أما بالنسبة لتحالف "أوبك+" النفطي بقيادة السعودية وروسيا، فتتباين القدرة على التكيف مع الأسعار المنخفضة بشكل كبير. ويشير ليون إلى أن السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت لديها احتياطات نقدية تتيح لها الاستدانة بسهولة لتمويل مشاريع اقتصادية متنوعة. وتوقع هانسن أن "الرابحين على المدى الطويل من المرجح أن يكونوا كبار منتجي "أوبك+"، خصوصاً في الشرق الأوسط، في وقت يستعيد هؤلاء حصصاً في السوق خسروها منذ عام 2022 عندما شرعوا في خفض طوعي للإنتاج".
بدأت المجموعة التي تضم 22 بلداً سلسلة إجراءات لخفض الإنتاج عام 2022 لدعم أسعار الخام، لكن السعودية وروسيا وستة بلدان أخرى منضوية في التحالف فاجأت الأسواق مؤخراً عبر زيادة الإنتاج. وأعلنت البلدان المنضوية في التحالف، السبت، عن زيادات ضخمة في إنتاج الخام لشهر يوليو/تموز مع 411 ألف برميل يومياً. ويفيد محللون بأن الزيادات هدفت على الأرجح إلى معاقبة أعضاء "أوبك" الذين فشلوا في الإيفاء بحصصهم، لكنها تأتي بعد ضغوط من ترامب لخفض الأسعار.
ويؤثر الأمر مباشرة على بلدان مثل إيران وفنزويلا اللتين يعتمد اقتصاداهما بشكل كبير على عائدات النفط. كما تضر الأسعار المنخفضة بنيجيريا التي تعد قدرتها على الاستدانة أكثر محدودية، على غرار أعضاء آخرين في "أوبك+"، بحسب الخبراء. لكن غويانا غير المنضوية في "أوبك" والتي سجّلت مزيداً من النمو في السنوات الأخيرة، بفضل اكتشاف النفط، تواجه خطر تباطؤ اقتصادها.
رسوم ترامب تخلط الأوراق
ومنذ أن عاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أعاد تفعيل نهجه التجاري الحمائي، عبر فرض رسوم جمركية مشددة على واردات الحديد والألومنيوم، وزادها مؤخراً إلى 50%، في خطوة أثارت قلقا عالمياً. وبينما تستهدف هذه السياسات ظاهرياً حماية الصناعة الأميركية، فإن ارتداداتها طاولت بشدة أسواق الطاقة العالمية. فحرب الرسوم الجمركية تزيد من حالة عدم اليقين في الاقتصاد الدولي، وتضرب سلاسل التوريد وتكلفة المعدات الصناعية، بما في ذلك البنى التحتية لقطاع الطاقة، خصوصاً في قطاعي النقل والتكرير. كما تؤدي إلى كبح الاستثمارات في مشاريع الطاقة الكبرى، نتيجة ارتفاع التكاليف وانخفاض العوائد المتوقعة، لا سيما في البلدان النامية أو ذات الهوامش الضيقة.
وبالإضافة إلى ذلك، تؤثر هذه الحرب التجارية بأسعار النفط والغاز بشكل غير مباشر. فمع تصاعد التوترات، تتراجع توقعات النمو العالمي، ما يخفض الطلب على الطاقة، ويضغط على الأسعار نزولاً، وهو ما حدث فعلاً في النصف الأول من عام 2025 مع هبوط خام برنت دون 65 دولاراً. في المقابل، تسعى الدول المنتجة لتعويض الخسائر عبر زيادة الإنتاج أو الدخول في معارك حصص سوقية جديدة، ما يضاعف التقلبات السعرية. هكذا تحولت الرسوم الجمركية من أداة تجارية إلى عامل جيوسياسي يعيد رسم خريطة الطاقة في العالم، ويخلط أوراق السوق بين منتجين يسعون للحفاظ على حصصهم ومستهلكين يبحثون عن أقل التكاليف في بيئة من الضبابية.
(فرانس برس، العربي الجديد)
