وليد غلمية... موسيقار السمفونيات يتبارز مع ملحن الأغاني
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفن. تنشر "العربي الجديد" مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم

لم أكن وحدي. سواي اعتَقد أيضاً أنّ الموسيقي وليد غلمية فلسطيني. كان ذلك بسبب لهجته ذات النبرة الفلسطينية. لكنني بعدما عرفته اكتشفت أنه لبناني من بلدة مرجعيون الجنوبية. ولهجة أهالي هذه البلدة هي الأقرب إلى اللهجة الفلسطينية، برغم وجود بلدات لبنانية عدّة أقرب منها إلى الحدود مع فلسطين. أحياناً كانت لفظة وَلْ (بفتح الواو وتسكين اللام) ترنّ في سياق حديثه، وهي تعبير مشترك يستخدمه أهالي فلسطين ومرجعيون بمعنى التساؤل الأقرب إلى الاندهاش "ول، ما عدت زرتنا صار لك شهرين". 
أبوه من مرجعيون، وأمه من آل الحمرا من مرجعيون أيضاً. وابن عمه الممثل والمذيع رياض غلمية. ونسيبه السياسي لبيب غلمية الملتزم بالقضية العربية. وفي مرجعيون كثيرون هم المنتمون إلى أحزاب عقائدية، أو الملتزمون بتوجهات سياسية، فيها شيوعيون وقوميون سوريون وعروبيون. 
في بيئة تحب الأدب والموسيقى نشأ وليد غلمية. أخبرني أن والده كان يعزف على الكمان والماندولين، وعنه أخذ الشغف بالنغم. كان في السادسة حين توفي والده، وكان قد بدأ يتعلم العزف على الماندولين. وعلى يد قسيس بروتستانتي في مرجعيون تعلّم النوتة والعزف. وأخبرني أيضاً أنه كان في عمر المراهقة، برفقة أهله، يوم حضر عرضاً لفرقة موسيقية بمدينة صيدا في أحد الميادين. فضلاً عن الموسيقى، شدّ انتباهه ذلك الذي يحمل في يده عصا رفيعة، يعطي الإشارات للفرقة، وعرف أنه قائد الأوركسترا. وآنذاك نشأت في باله الرغبة في أن يصبح ذات يوم مثله. وكان في البيت يقود فرقة موسيقية متخيَّلَة وهو يستمع إلى الأغاني والمعزوفات، مقلّداً حركات قائد الأوركسترا. 
درس في مرجعيون حتى صف البكالوريا، ثم أقنع أهله بالانتقال إلى الثانوية الأميركية في صيدا، لأنه عرف أن بها أستاذاً ماهراً في تعليم الموسيقى. وبعد المرحلة الثانوية انتقل إلى بيروت وانتسب إلى الجامعة الأميركية لدراسة الرياضيات والفيزياء بناء على رغبة أهله، وفي المقابل وافق الأهل على أن يدرس الموسيقى في الكونسرفاتوار في الوقت نفسه. وبعد التخرج سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ليواصل الدراسات العليا في الفيزياء في جامعة كانساس، لكنه لم يكمل هذه الدراسة بل اتجه إلى دراسة الموسيقى فأجاد العزف على البيانو، وتعلّم التدوين المضبوط للنوطة والتوزيع الموسيقي، ودرس التراكيب اللحنية في المؤلفات السمفونية العالمية، وعاد إلى لبنان وقد عقد آمالاً كبيرة. 
لكنه لم يلقَ تشجيعاً مناسباً للعمل في مجال الموسيقى الكلاسيكية، فاشتغل موظفاً في شركة طيران عالمية، يداوم كل يوم في مطار بيروت، إلى أن كان اللقاء الذي جمعه بروميو لحود سنة 1963، وفيه عرف المخرج والمنتج إمكانات الشاب المتحمس الذي درس الموسيقى في أميركا. كان روميو لحود متعاقداً آنذاك مع لجنة مهرجانات بعلبك الدولية لتقديم مسرحية غنائية في إطار "الليالي اللبنانية"، وكان قد تهيأ لعرض عنوانه "الشلال"، كتبت شقيقته ألين لحود القصة وصاغ الحوارات وكلمات الأغاني الشاعر يونس الابن. وجرى التعاقد مع وليد غلمية على تأليف ألحان هذا المهرجان، الذي كان من بطولة صباح وجوزف عازار، بمشاركة سمير يزبك وإيلي الشويري وأنطوان كرباج، وعَرف لحن "يسلم لنا لبنان جنّة أمانينا" الذي أنشدته صباح نجاحاً كبيراً، فتح أبواب الشهرة لوليد غلمية.
وفي السنة ذاتها كان يونس الابن قد كتب مسرحية غنائية بعنوان "مسبحة ستي" عرضت في "مهرجانات إهدن" فرشّح وليد غلمية لتلحينها، وتكرر التعاون بين الشاعر والملحن في مهرجان إهدن في العام التالي بالمسرحية الغنائية "هاك الغريبة". وفي سنة 1964 أيضاً، كان وليد غلمية مساهماً في تأليف ألحانٍ في عرض "أرضنا إلى الأبد" في مهرجانات بعلبك الدولية مشاركةً مع زكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي وعفيف رضوان. وفي السنة التالية شارك بتلحين بعض الأغاني في مهرجان "نهر الوفا" وكان من بطولة وديع الصافي ونجاح سلام. غنّى وديع "إيدك بإيدي" و"كان ياما كان" وبالاشتراك مع نجاح سلام "يا نهر الوفا رجعنا". وفي هذا المهرجان تولّى وليد غلمية قيادة الأوركسترا أيضاً. 
وبعد "الشلال"، جمعت سلسلة من الانتاجات الفنية بين روميو لحود ووليد غلمية. كان روميو لحود قد تعاقد مع مسرح فندق فينيسيا وافتتح العروض بمغناة "موال" سنة 1965، وفي العام التالي "ميجانا"، وفي موسم 1967 مغناة "عتابا". كانت هذه العروض من بطولة صباح وجوزف عازار وسمير يزبك وعصام رجي، وكان لوليد غلمية نصيب كبير من الألحان، وكان الاهتمام بالفولكلور اللبناني واضحاً في هذه العروض، ليس في عناوينها فحسب، وإنما أيضاً في أغانيها.
وفي صيف عام 1967 عاد وليد غلمية مع روميو لحود إلى مهرجانات بعلبك بمنوعات غنائية - لتعذُّر إنتاج مسرحية بسبب اندلاع الحروب العربية/ الإسرائلية آنذاك - أنشدها نجوم الفرقة أنفسهم: صباح وعازار ويزبك ورجي. وهم أيضاً، أبطال المسرحية الغنائية "القلعة" التي قُدّمت في بعلبك سنة 1968، عن نص لألين لحود وأغانٍ لموريس عواد وألحان في معظمها لوليد غلمية. وكان ذلك آخر تعاون مسرحي مع روميو لحود. في مهرجانات بعلبك سنة 1970 قدّم روميو لحود المطربة الجديدة مجدلى في مغناة "الفرمان" عن نص لنادية تويني، وكان تلحين الأغاني من نصيب زكي ناصيف وعصام رجي والموسيقى التصويرية لبوغوص جلاليان. وفي العام ذاته أطل وليد غلمية في مهرجانات جبيل، بمغناة من إنتاجه وألحانه عنوانها :الوهم" كتب حواراتها ونظم أغانيها موريس عواد وكانت من بطولة صباح ونصري شمس الدين وفيلمون وهبي. وفي 1971 تولى وليد غلمية في مهرجانات جبيل أيضاً تلحين مغناة "يا ليل" التي كتبها ونظم أغانيها جورج جرداق، وكانت من بطولة جوزف عازار وفدوى عبيد ودريد لحام. 
كان لقائي الأول بوليد غلمية في ربيع سنة 1968 أيام التدريبات على مهرجان "القلعة"، ونشأت وقتها الصداقة بيننا. وفي أواخر ذلك العام جمعني وليد غلمية بالموسيقي وأستاذ العزف على العود العراقي منير بشير. وكانت مقابلة طويلة جرى الحديث فيها عن الفولكلورَين اللبناني والعراقي، وعن آلة العود التي كان منير بشير قد أدخل عليها تعديلاً حديثاً، رفعت "دوزنات" العود ليتناسب مع البيانو، وأضاف إلى الآلة وتراً جديداً أتاح للعود مرونة إضافية، تؤهّله لعزف المؤلفات الموسيقية الشرقية كما الغربية. 
كان وليد غلمية يحرص على الحضور في المشهد الثقافي بفضائه الواسع، لم يكتفِ بعلاقاته مع أهل الموسيقى، بل كانت له صلات مع مثقفين كثر بينهم شعراء أو روائيون أو مسرحيون أو فنانون تشكيليون. وكان في أوقات فراغه من المواظبين على الحضور إلى مقهى "الهورس شو" في بيروت، ملتقى المثقفين والإعلاميين آنذاك. وفي تلك الفترة ساهم بتأليف الموسيقى التصويرية لبعض المسرحيات والأفلام السينمائية. من المسرحيات: "مجدلون" (تأليف هنري حاماتي وإخراج روجيه عساف ونضال الأشقر)،  "الزنزلخت" (عصام محفوظ/ إخراج برج فازليان)، "أعرب ما يلي" و"ميخائيل نعيمة" و"بلا لعب يا أولاد" (يعقوب الشدراوي)، و"شربل" (ريمون جبارة)، وفي السينما: "كفر قاسم" (برهان علوية)، و"بيروت يا بيروت" (مارون بغدادي)، و"مملكة الفقراء" (فيليب عقيقي)، كما استعان المؤلف الموسيقي الإيطالي ماريو ناشيمبينه بمعزوفة لوليد غلمية في إطار الموسيقى التصويرية التي وضعها للفيلم البريطاني "حيث الجواسيس" Where the spies are من بطولة ديفيد نيفن وفرنسواز دورلياك، الذي صُوّرت بعضُ مشاهده في بيروت وموسكو. 

وكانت صباح مِنْ أبرز مَن غنّى ألحان وليد غلمية، مثل: "قلعة كبيرة وقلبها كبير"، و"رجعنا بعد الغيبة" (من "القلعة") و"شو بدي أعمل قُل لي"، و"درجي دوسه دوبارة" (الوهم)، و"زقفة يا شباب"، و"مسّيناكم مسّونا" (من "ست الكل" إخراج وسيم طبارة، سنة 1974)، و"مرحبا يا حبايب" (من "حلوة كتير" مع وسيم طبارة 1975). وغنّى جوزف عازار 42 لحناً لوليد غلمية، من بين أشهرها: "قالوا انطوى سيف البطل"، و"صرتوا ع العالي ونسيتوا الناس"، و"وحياة عيونها الحلوين"، و"كنزتي الحمرا"، و"عرشك مرمر"، و"قول للحلوة أحلى لها"، بالاشتراك مع فدوى عبيد، التي أنشدت بمفردها "يا ساكن الليل"، و"ميلي ع ميّالك"، و"روح واتركني"، و"يللّا يا أهل الدار"، كما غنّى سمير يزبك "وينك يا خيال انزل"، ونصري شمس الدين أنشد "نحن الهوا إنتو الشجر" و"آه لو كيّلنا" (الوهم).
وبرغم رواج هذه الأغنيات ونجاح وليد غلمية في مجال التلحين، لم يكن ذلك يرضي طموحه الأساسي. كان يعتبر تلحين الأغاني من الرتبة الثانية في سلم الأمجاد الموسيقية، هو القائل "الاستماع إلى الغناء مرحلة غريزية، والاستماع إلى الموسيقى مرحلة فكرية سامية جداً"، ومرة أخبرني أن مثاله الأعلى بيتهوفن، وفون كاريان في قيادة الأوركسترا. وبعد انقطاعه عن تلحين الأغاني سنة 1975، عاد إلى المسرح الغنائي بعد ثلاث سنوات من باب تأليف بعض المقطوعات الراقصة لعروض فرقة كركلا الاستعراضية، شارك مع مؤلفين موسيقيين آخرين في "طلعة نور"، و"حلم ليلة شرق"، و"إلسا ملكة قرطاج". 
ثم راح إلى مجال موسيقي آخر يحقق أحلامه القديمة، وكان أن مهّد صديقه العراقي منير بشير الطريق له لدى وزارة الثقافة العراقية، في مرحلة كانت طموحات السلطات في بغداد عالية، فسخّرت موازنات ضخمة للإنتاج الفني العراقي، وكُلِّف وليد غلمية بتأليف الموسيقى التصويرية لفيلم "القادسية" الذي أخرجه صلاح أبو سيف، وأُسندت إليه مهمة تلحين النشيد الوطني العراقي، عن قصيدة شفيق الكمالي "وطنٌ مدَّ على الأفق جناحاً/ وارتدى مجد الحضارات وِشاحاً" (اعتمد من 1981 إلى 2004). وتمكّن الموسيقي اللبناني من تلحين ستّ سمفونيات وقاد الأوركسترا الفلهارمونية التي عزفتها، ومن بينها سمفونية "القادسية" و"المتنبي" و"اليرموك"، وهي ذات موضوعات عراقية، وسمفونية "المواكب" وقد أهداها إلى جبران خليل جبران، وسمفونية "الفجر" المهداة إلى مئوية أنطون سعادة مؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي.  
وبعدما اكتسب صفة مؤلف السمفونيات، أتيحت له الفرصة ليحقق حلماً قديماً آخَر سنة 1991، فتسلّم رئاسة "المعهد الوطني العالي للموسيقى" (الكونسرفاتوار)، وكان له فضل كبير في تحديثه، بمناهج التعليم وبإدارته الحريصة على التجديد. في هذا الموقع، أصبح وليد غلمية البروفسور الأكاديمي، والمعلّم، ومربي الأجيال الموسيقية الطالعة. وحرص على إنشاء "الأوركسترا الفلهارمونية اللبنانية" سنة 2009، على غرار الأوركسترات السمفونية العالمية، وتولى الإشراف عليها مع إدارة المعهد إلى حين وفاته في 7 يونيو/حزيران 2011 عن عمر ناهز الثالثة والسبعين (من مواليد 14 إبريل/نيسان 1938). 
قاد الأوركسترا الفلهارمونية، وتسنى له أن يتولى قيادة الأوركسترا المصاحبة للمطربة فيروز في حفلات كبيرة في جرش (الأردن)، وفي أستراليا، وفي ساحة الشهداء (بيروت). واقتصر التعاون بينهما على هذه المهمة، إذ لم تغنّ فيروز أيّاً من ألحانه، حتى بعد انفصالها عن الأخوين رحباني. آنذاك غنّت ألحان زكي ناصيف وفيلمون وهبي وزياد الرحباني. 
حقق وليد غلمية أحلامه التي أعجبت النخبة، لكنّ الجمهور الكبير في لبنان والعالم العربي ظل يردد ألحان أغانيه، ويتذكّر تعليقات الحَكَم في برنامج "ستوديو الفن".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية