وسط زحام القاهرة… وجدت نظري وأشياء أخرى
Civil
4 hours ago
share

 

في القاهرة لا يمكنك أن تكون زائرا عاديا المدينة تحتضنك فور وصولك مطارها، وتلقي بك في نهر بشري لا شاطئ له. كل شيء فيها يحدث بسرعة: الزحام، العيون، وحتى الحكايات.

كانت البداية رحلة عائلية لكن القاهرة قررت أن تمنحني أكثر من شفاء… من هناك، بدأ كل شيء آخر.

وفي الحقيقة، لم تكن رحلتي إلى مصر مخططة بهذا الشكل.

قررت بشكل مفاجئ، وفي الأسبوع الأخير فقط أن أبحث عن حل لمشكلة عيوني، بعد أن أخبرني الأطباء في سويسرا، كما في قطر سابقا، بأن أعتاد على العيش بالنظارة.

لكن نصيحة صديق يعيش معي في سويسرا كانت الدافع. هو يعرف جيدا كيف نلعب الكرة وأنا متوتر، وكيف أسبح وأنا أضع النظارة خوفا من فقدان الرؤية. كان الأمر يزعجني أكثر مما أظهر وبتوصية خاصة توجهت إلى طبيب العيون المصري المعروف أيمن نصر… فوجدت أن كل اليمن هناك في عيادته، ترددت عليه في أربع زيارات وفي كل مرة كنت أصل والعيادة ممتلئة باليمنيين..

في القاهرة ركبت كل شيء: أوبر، توك توك، تاكسي عتيق عليه لافتة “لا إله إلا الله”. وكنت دائما أفتح نافذة للحديث مع الناس. “إزيك؟ عامل إيه؟ ومن هذه الجملة، ينمو الحوار مثل نبات بري في شقوق اي رصيف.

قررت ذات يوم أن أستأجر سيارة سقتها لنصف يوم فقط، ثم أعدتها سريعا. لم يكن السبب في السيارة، بل في الزحام والخوف من الحوادث القيادة في القاهرة مهمة شاقة جدا وليست مجرد تنقل انها معركة أعصاب في شوارع مزدحمة بلا هوادة.

أحد السائقين المصريين قال لي: “أنا خريج تجارة، بس العربية دي بترعاني”. وآخر يعمل حتى الثالثة فجرا ليدفع إيجار شقة لا تلمس فيهم تذمرا بقدر ما تشعر بثقل الأيام على أكتافهم.

أقمت شهرا في مصر، لكن لم أعد الأيام الوقت هناك يقاس بالحوار والنظرات وكوب قهوة على الطريق، ورائحة المانجو الناضجة، المانجو المصري ليست فاكهة، بل نشيد صيفي من حنين وسكر لقد أكلتها بنهم عجيب،

شربت القهوة على الرمل. النادلة تشغل إذاعة للقرآن وتتنفس مع صوت عبد الباسط عبد الصمد. في مصر، القرآن لا يغيب تسمعه في المتاجر والبقالات ومحلات الملابس، والراديو المهترئ على التروسيكل. لا أحد يلزمك بشيء، لكن الإيمان هناك جزء من الهواء.

زرت المتحف المصري، وتحدثت مع حارس في الستين يتأمل حتشبسوت وكأنها ابنته قال: “دي ست حكمت أكتر من رجالة كتير”، كان يعتني بالتاريخ كمن يعتني بأحد من أهله.

وكانت لي لقاءات مع اصدقاء: عبدالرقيب الابارة ابن الشهيد والمدريدي العظيم، وعزوز السامعي الصديق الوحيد من شباب فبراير كما أعرف الذي قدم استقالته من وظيفة حكومية. وبشير سنان صديق الدوحة، الذي قادني إلى مقهى لا ينسى ويتعامل مع القاهرة كأنها بلده. والروائي حميد الرقيمي الذي يكتب في دفتر صغير أمام النيل ويلمع في عينيه وجع هادئ. والصحفي عصام بلغيث، الخارج من سجون الحوثيين، صار اخا كما كان دائماً، يرافقني إلى الطبيب ويتكلم بالنيابة عني. يعرف كيف يفتح الأبواب بلغة المهذبين.

مكالمة من عامر السعيدي الذي يسكن في ضفة أخرى من القاهرة تفصلنا مسافة نصف يوم هه يطمئن علي، ومراد العريفي الذي يتصل: “إيش رأيك نلتقي يا صديقي؟”، ثم يغرق في حياته الخاصة.

وكان في هذا المشهد كله وجه لا يمكن أن ينسى… ابن عمي العزيز عبدالله الجرادي وعائلته الكريمة، عبدالله العائد من روسيا بعد سنوات الدراسة للاستقرار في مصر، صاحب مكتب السعادة للاستثمار والتسويق العقاري ، والملاك الذي هبط من السماء في هيئة إنسان. حضوره كان طمأنينة متنقلة، يعرف كيف يخفف من تعبك بكلمة، وكيف يجعل الطريق يبدو أقصر بابتسامة. لم يكن مجرد قريب، بل سند حقيقي، ورجل يعرف أن يكون ضوءا في يوم معتم.

في مصر يمكنك أن ترى كل شيء تعب ثقيل: المدرس الذي يدرس نهارا ويعمل سائقا ليلا، المهندس الذي يرسم الأبراج صباحا ويبيع الهواتف مساء، والمرأة المصرية مثل الرجل، تقف طوال النهار من أجل راتب خمسة آلاف جنيه، أي مئة دولار فقط.

شعب مكافح بشكل لا يصدق لا يطلب الشفقة بل يواصل السير وكأن الكرامة في العرق، وكأن الصبر جزء من الموروث الجيني لهذا المكان.

بل أكثر من ذلك…

الشعب المصري برجاله ونسائه في حالة ركض جماعي للإيفاء بمتطلبات الحياة من مدير الإدارة إلى موزع الأدوية، الكل يعمل في دوام صباحي رسمي، ثم يعود مساءً إلى مهنة ثانية، تمتد أحيانا حتى بعد منتصف الليل. لا أحد يتوقف لا أحد يشتكي.  وكأن العيش هنا لا يُمنح، بل يُنتزع يوما بيوم

القاهرة تتشابك، إمبابة غير المعادي ومدينتي كأنها أجنبية. والتجمع الخامس عالم أخر لكنها ليست فجوة طبقات فقط بل فجوة بين من يملك ولا يشعر بالأمان، ومن لا يملك ويعطيك نصفه.

في أحد المشاوير، دار بيني وبين سائق تاكسي مصري – يعمل معلم رياضيات صباحا- نقاش سيبقى عالقا في ذهني. قال لي: “القاهرة بتكبر، بس مش دايما بتتحسن.” كان يتحدث عن التوسع العمراني كمن يتحدث عن أحد أقربائه، يعرف عاداته وأوهامه. قال: “كل يوم في مدينة جديدة، كوبري، نفق، طريق سريع… كأن البلد بتجري تسبق زحمتها، وبتحاول تبني لنفسها مخرج.”

ثم تنهد وأردف: بس بص، اللي بياخد خمسة آلاف جنيه، يعيش إزاي في العاصمة الإدارية؟ أو في مدينتي؟ المباني بتعلى… بس الجيب واقف مكانه.”

وكان محقا القاهرة التي تتوسع بجنون تبدو كأنها تحاول إنقاذ نفسها من نفسها. هناك عمل كبير ينجز، مشاريع تنبت من الأرض، جسور، مدن، طرق لكن هذه الإنجازات لا تكفي وحدها إن لم تستطع حمل الناس معها فالمدن لا تسكن بالإسمنت فقط، بل بالأمان وقدرة الناس على البقاء

في أحد الأيام، كنت أنتظر طلبي صاعدا إلى شقتي حين علقت في الأصنصير. أربع عشرة دقيقة كاملة الهواء شحيح، الزمن يتمطى كعلكة، وأنا أراجع في رأسي كل خطاياي القديمة. ثم… دق الباب المعدني، وجاءه صوت رجل يقول: “افتح من جوا، أنا بتاع الطلب”. نعم موزع الطلبات أنقذني لا أعرف كيف ولا هو عرف. لكنني خرجت وفي قلبي امتنان لا يُنسى.

وهذه هي القاهرة حين تظن أن أحدا لن يأتي، تجد شخصا بسيطا يمد لك يده دون أن تعرف اسمه.

أحببت مصر لا حبا مريحا، بل حبا معقدا يرهقك ويشدك في آن واحد كنت أعيش في الشيخ زايد مدينة هادئة، واسعة كأنها مدينة خليجية بخدماتها ونظافتها وأناقتها أما مدينتي فكانت أوروبية في سلوكها البارد وهندستها الجافة. كنت أظن أنني وجدت السلام لكن كلما زرت وسط البلد عدت مثقلا بالزحام والضجيج وقلت: “هذا آخر يوم لن اعود وسط هذه الزحمة”. ثم أجلس في زايد وحدي في هدوء لا صوت غير صوت المكيف، لا باعة لا مناداة لا أصوات.

فيداهمني الفراغ ويبدأ الحنين. أعود إلى وسط البلد لا لشراء شيء بل لأعيش لحظة من حياة كثيفة. وسط البلد ليست مكانا، بل موجة حياة. هناك القهوة تقدم بصوت، البيع بنداء، الحياة فوضى لكنها صادقة.

أتنقل بين زايد والقاهرة كمن يتنقل بين قلبه وعقله زايد تعلمني الصمت، والقاهرة تذكرني لماذا أحتاجه على الطريق بينهما، كانت هناك سيارة صغيرة محطة سحرية. تقف فيها فتاة تصنع القهوة وكأنها ترمم العالم ذهبت إليها مرارا. ليس من أجل القهوة، بل من أجل ما تضيفه: لحظة اتزان بين مدينتين. كانت تقول: “اتفضل يا فندم”، وكأنها تسلمني جواز سفر إلى ذاتي.

سألتها: “مش بتتعبك الوقفة؟” قالت: “بعمل اللي بحبه، والناس اللي بيرجعولي هما سبب وقفتي.”

في طعامي أنا يمني . لا أجرب كثيرا واحة اليمن كان ملاذي أطباقه تشبه البيوت مألوفة ودافئة.

في أحد المشاوير دلني سائق يعمل موزع أدوية صباحا على محلات بدلات بأسعار مذهلة في 6 أكتوبر . اشتريت اثنتين، كأنني طفل اشترى زيه المدرسي ثم أخذتهما إلى خياط في منطقة الحصري، وهي مكان مزدحم إلى درجة تشعرك أن الناس يتوالدون من الأرصفة. أعطيته البدلتين معا، إحداهما للتعديل، والأخرى لأنه قال: “سيبها هنا بدل ما تتعذب… أظبطهم كلهم سوا”.

عدت بعد يومين فلم أجد شيئا، نظر إلي الخياط بأسى حقيقي، كأنما وقع له ما وقع لي. قال: “يا باشا… والله العظيم حصلت هوشة هنا، ناس اتخانقوا، ودخلوا، والدنيا اتلخبطت، والبدل ضاعت”. وأدخل يده في جيبه أنا تلعثمت وحزنت  وضعت يدي على راسي وغادرت المكان بعد أن سامحته

هل كان صادقا؟ نعم كان صادقا بطريقة موجعة كان وجهه مثل رجل خرج من جنازة ولم يعرف الطريق للبيت.

في تلك اللحظة، تذكرت القاهرة كما هي: مدينة تعطيك كل شيء، وتأخذ منك أشياء أخرى دون أن تعتذر.

مدينة لا تعدك بشيء لكنها تدهشك دائما حتى حين تخذلك.

للقصة بقية…

سأكتب لاحقا عن خوف اليمنيين القادمين للعلاج من حمل العملات الأجنبية في القاهرة، عن الأموال التي جاءت من بيع أراضي، أو من ذهب الجدات، لتتحول إلى علاج لحفيد أو أمل في شفاء قريب.

يأتون محملين بثقل الحياة، لا رغبة في الرفاه… طلبا للنجاة.

ومثلما يعطون القاهرة أموالهم بثقة، يجب أن تمنحهم القاهرة شعورا بالأمان، لا بالخوف.

فالعاصمة التي تسكن قلوبهم، لا يليق بها أن تزرع القلق في جيوب من جاءها مكسورا وواثقا في آن واحد..

The post وسط زحام القاهرة… وجدت نظري وأشياء أخرى appeared first on يمن مونيتور.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows