
"إذا نطحتك بقرة، لا تظلم الحليب."
هذا العنوان ظلّ عالقًا في ذهني منذ أن ذكرته في حوار أجري معي عام 2008 في ملحق "أفكار" الصادر عن مؤسسة الجمهورية. ويعود إلى ذهني كلما رأيت كيف تتحوّل خيبة واحدة إلى عداء شامل، وكيف يمكن لتجربة سلبية أن تزرع في النفس ارتيابًا يعمّ كل ما يشبهها أو يمتّ لها بصلة. فمن لسعته نحلة، لا ينبغي له أن يخاصم العسل، ومن نطحته بقرة، لا ينبغي أن يعلن الحرب على الحليب!
تتكرر هذه الظاهرة كثيرًا حين نرصد المواقف من أي مشروع أو دعم يأتي من جهات غربية في اليمن. هل هو شكّ عقلاني وتحفّظ مشروع؟ أم ارتيابٌ مرضيّ يخلط بين التجارب الفردية والسياسات الدولية؟
كيف شكّل الماضي الاستعماري، والانحياز الغربي العنصري تجاه قضايا المسلمين، هذا الارتباك والارتياب؟
وهل نملك اليوم مناعة ثقافية تُفرّق بين التوجّس الرشيد والوسواس المرضي؟
كثير من المواقف الحادّة التي نسمعها، لا تُبنى على تحليل موضوعي، بل تنبع من جروح قديمة وتجارب مريرة تحوّلت إلى "ارتياب مرضي".
و"الارتياب المرضي" لا علاقة له بالعقل، بل هو حالة انفعالية، تتغذى على الخوف، وتغلق كل أبواب الفهم، وتحيل العلاقات إلى معسكرات شكّ وعداوة، لا ترى في الآخر سوى تهديد، حتى لو كان يحمل بيده زهرة.
في المقابل، هناك ما يمكن تسميته بـ"الارتياب الرشيد"، وهو توجّس صحي، وعلامة على الوعي والنضج.
الارتياب الرشيد لا يرفض، بل يسأل. لا يعادي، بل يتحرّى. لا يصدر أحكامه من الجرح، بل من الفهم.
الفرق الجوهري بين النوعين هو أن الارتياب المرضي يتخذ الشك إجابة، أما الارتياب الرشيد فيعتبر الشك سؤالًا.
ولهذا فإن أعظم دواء يقدّمه القرآن الكريم للمصابين باضطراب الارتياب المرضي من المتشددين، هو هذه الآية المحكمة:
"يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا..."
إنها ليست مجرد وصية أخلاقية، بل قانون لبناء مجتمع سليم، يقوم على الثقة والعقل والعدل، لا على الوساوس والتجسس وسوء الظن.
ولاحظ أن الآية قالت: "إن بعض الظن إثم"، مما يفتح الباب للتوجّس العقلاني إن كان له ما يبرّره.
ويحضرني هنا قول عمرو بن العاص رضي الله عنه: "السياسة هي الإصابة بالظن"
فليس كل ظن تهمة، وليس كل شك خرابًا. السياسة الرشيدة هي أن تُحسن الظن دون أن تُعمّمه، وأن تحتاط دون أن ترتاب في كل شيء.
باختصار، ليس كل ريبة بصيرة، ولا كل شك حكمة.
والتمييز بين الارتياب العقلاني والارتياب المرضي هو الخطوة الأولى نحو موقف ديني وإنساني راشد ومتّزن.
اللهم إنا نسألك العزيمة في الرشد، والبصيرة في الشك، والعدل في المواقف.
Related News

