
لم تعد المنصات الموسيقية الرقمية مجرد أدوات تكميلية للاستماع، بل أصبحت البيئة الأساسية التي تُنتَج من خلالها الشهرة، وتُقاس بها الشعبية، ويُبنى على أساسها الذوق العام. ومع أن ظهور منصة سبوتيفاي ارتبط في بداياته بسوق الموسيقى العالمية، فإن حضورها المتصاعد في المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة فرض نفسه باعتباره عنصراً لا يمكن تجاهله في قراءة المشهد الموسيقي المعاصر.
هذا الحضور فرض أسئلة ملحّة: إلى أي مدى تشارك المنصة في توجيه الذوق الموسيقي العربي؟ وهل الأرقام العالية تعكس فعلاً تفضيلاً شعبياً؟ أم مجرد انتشار برعاية الخوارزميات؟ وما مصير الأشكال الموسيقية غير السائدة، كالموسيقى التقليدية أو التجريبية، في بيئة تُكافئ الإيقاع السريع والاستجابة الفورية؟
منذ دخولها الفعلي إلى السوق العربية عام 2018، عملت "سبوتيفاي" على تكريس حضورها من خلال قوائم تحريرية موجهة بحسب اللهجة والبلد وغيرها من القوائم المصممة لتلائم الذائقة المحلية. ووفقاً لتصريحات مديرها الإقليمي أكشات هاربولا، فقد أحدثت المنصة تطوراً هائلاً في سوق الموسيقى العربية سجل أعلى نسبة نمو عالمي عام 2021، وحل في المركز الثالث في 2022 بنسبة 23.8%.
ومن ناحية الانتشار العالمي، زادت استماعات موسيقى المنطقة بنسبة 170% منذ عام 2019. وتشهد استماعات الفنانين العرب خارج المنطقة نمواً سنوياً يقارب 40%. عززت هذا الانتشار موجة الفنانين الشباب الذين يدمجون المحلي بالعالمي، مع تنامي شعبية الجاز والراب والهيب هوب العربي.
لكن ما بدأ في صورة محاولة للاقتراب من جمهور المنطقة سرعان ما كشف عن معضلات أعمق تتجاوز مسألة التصنيف. فقد ظهرت الخوارزميات كأنها تعكس الذوق العام، في حين أنها تعمل في الواقع بوصفها عدسة مكبرة وموجّهة، تضخّم ما يحظى بتفاعل سريع، وتتجاهل ما يتطلب وقتاً للتأمل أو الفهم التدريجي. من هنا، لا تصبح الأغنية الأكثر حضوراً على المنصة هي بالضرورة الأجود فنياً، بل الأقدر على توليد التفاعل الفوري: أغنية قصيرة، بسيطة، قابلة للمشاركة، مغرية للنقر.
تخلق هذه الديناميكية فجوة نوعية بين ما يُنتج وما يُستمع إليه، وبين ما يملك الإمكانية التقنية للظهور وما يُخزن في ذاكرة المنصة من دون أن يظهر على واجهاتها. ولهذا، فإن نجاح فنان ما على "سبوتيفاي" لا يعني دائماً أنه نجم الجماهير، بل نجم النظام الرقمي. جمهور "سبوتيفاي" في معظمه شبابي، متصل دائماً بالإنترنت، يملك أدوات دفع إلكترونية، ويعيش نمطاً استهلاكياً يقتات على المحتوى الرقمي.
يستمع هذا الجمهور إلى الموسيقى بنفس أسلوب تصفح شبكات التواصل الاجتماعي: تنقل سريع، استجابات لحظية، من دون فرصة مقدرة للصبر أو الاستماع الطويل. ولهذا، تُفضَّل الإصدارات التي تبدأ مباشرة بالغناء، وتتجنب المقدمات الطويلة، وتختصر كلماتها إلى الحد الأدنى.
في هذا السياق، يمكن فهم أسباب اختفاء الأغنية الطربية أو الطويلة عن الواجهة. ليس لأنها أمست مرفوضة، بل لأن البيئة الجديدة لا تناسب خصائصها. فالمستمع الذي يضغط على أغنية "يا مسافر وحدك" مثلاً، لا ينتظر دقيقة ونصفاً لتنتهي المقدمة الموسيقية. والخوارزمية، حين ترى نسبة مغادرة مرتفعة، تظن أن الأغنية غير جذابة، فتهملها في الترشيحات.
بذلك، فإن الأغنية الطربية لا تُرفض لأنها سيئة، بل تُقصى لأن معايير التقييم تغيرت، ما يستدعي إعادة التفكير في العلاقة بين المنصة والموروث الموسيقي، وبين الذوق العام ومحدداته الجديدة.
من جهة أخرى، تؤدي المنصة دوراً مزدوجاً؛ فهي أداة توزيع كبرى، لكن من دون أن تكون طرفاً مُنتجاً. وهذا يطرح تساؤلات حول الربحية والعدالة. فـ"سبوتيفاي" تمنح جزءاً صغيراً جداً من العوائد للفنان، في مقابل أرباح ضخمة تحققها من الإعلانات والاشتراكات وتحليل بيانات المستخدمين. بينما يظل الفنان، خاصة العربي، في موقع الطرف الأضعف اقتصادياً إذا لم يملك دعماً إنتاجياً قوياً أو إدارة رقمية محترفة.
لا تتعلق الإشكالية فقط بافتقاد عدالة التوزيع، بل في غياب الوعي بهذه المعادلة عند معظم الفنانين. فكثير من الموسيقيين العرب يرفعون أعمالهم على المنصة من دون معرفة بخوارزمياتها، أو بكيفية تحسين ظهورهم فيها، أو باستراتيجيات الترويج الرقمي. يؤدي ذلك إلى احتكار غير مباشر للمشهد يمارسه من يعرف اللعبة جيداً، وليس بالضرورة من يملك المحتوى الأفضل.
لعل هذا ما يفسر الحضور الضعيف والباهت للأرشيف الموسيقي العربي الكلاسيكي على المنصة. فكثير من أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وعبد الحليم متاح بجودة منخفضة، أو ناقص البيانات، أو غير محدث من حيث التصنيف. هذا الغياب يرسخ فجوة بين أبناء الأجيال الجديدة وتراثها، ليس لأنهم لا يريدونه، بل لأنه لا يقدم لهم كما يجب.
ورغم كل هذا، لا يمكن إنكار أن "سبوتيفاي" قدمت فرصاً كبيرة لفنانين مستقلين ما كانوا ليفوزوا بنظائر لها في النظام التقليدي. فنانون شباب من الأردن أو السودان أو تونس أو فلسطين استطاعوا الوصول إلى جمهور واسع بفضل أدوات رقمية مكنتهم من تجاوز سلطة المنتجين الكبار، أو الرقابات الرسمية، أو الحواجز المكانية.
هذه الديمقراطية الظاهرية لا تخفي أنها مشروطة: من يفهم آليات اللعبة ينجح. من يتقن الإيقاع المختصر، والصوت المضغوط، والسوشال ميديا، يستطيع أن يصنع لنفسه مكاناً. لكن من يحاول بناء مشروع طويل النفس، أو إنتاج أعمال مفاهيمية أو تجريبية، يظل هامشياً في واجهات المنصة.
لا تصنع "سبوتيفاي" الذوق، لكنها تصنع ما نراه من الذوق. وهي لا تفرض شيئاً، لكنها تخلق بيئة تفضي إلى سلوك معين. هذا يضعنا أمام معضلة ثقافية: كيف ننتج فناً ذا قيمة في بيئة لا تكافئ العمق، ولا تكترث للإتقان؟ صحيح أن السؤال لا يخص الموسيقى فقط، بل يشمل السينما والكتابة والفكر، فكل المحتوى اليوم يتجه إلى السرعة، والاختصار، والقابلية للاستهلاك السريع. لكن لأن الموسيقى فن سمعي فإن تأثرها بهذا التحول أسرع وأعمق.
وربما يجد هواة لعن الواقع في هذا المناخ فرصة لتكرار أحكامهم حول انحدار الذوق العام، أو أن الجمهور لا يريد موسيقى جيدة. لكن هذه الأحكام المعلبة تتجاهل أن المنصة لا تمنح جمهورها الوقت أو الأدوات لاكتشاف الأعمال الموسيقية. ولذلك، فإن المعركة الحقيقية اليوم ليست بين الطرب والمهرجان، أو بين القديم والجديد، بل بين العمق والسطح، بين البطء المطلوب للفهم، والسرعة المفروضة للاستهلاك.
تكشف هيمنة المنصة عن مدى الحاجة إلى مؤسسات ثقافية تفهم طبيعة التحول الرقمي، وتعيد تقديم الموسيقى العربية بما يليق بها. وتكشف افتقار العرب إلى توثيق مهني، وترويج ذكي، وتعليم موسيقي رقمي، ومنصات موازية، وربما تحالفات بين فنانين يملكون مشروعاً وليس مجرد أغنية.
زادت استماعات موسيقى المنطقة عالمياً بنسبة 170% منذ عام 2019
من المهم لكل مشتغل بفنون الموسيقى والغناء في المنطقة أن يتوقف أمام ما تنتجه المنصة من مشهد جديد إلى ما يسمى بـ"النجومية الرقمية". لقد تغيرت معايير الشهرة في العقد الأخير، وأصبحت مرتبطة بأرقام المشاهدات والاستماعات أكثر من ارتباطها بالأثر الفني أو الامتداد الزمني. وبهذا، بات المغني أو المنتج الموسيقي الذي يحقق بضعة ملايين من الاستماعات خلال أسابيع معدودة يعامل كما لو كان رمزاً ثقافياً، في حين يهمش آخرون رغم تاريخهم الممتد لمجرد أن أرقامهم لا تواكب العصر الرقمي.
هنا، يظهر أحد أعمق التحولات التي أحدثتها المنصات: لم تعد الشهرة نتاج تراكم، بل لحظة انفجار رقمية. يمكن لأغنية واحدة، أحياناً مصنوعة في المنزل، أن تحقق انتشاراً هائلاً، تُبنى عليه جولات فنية، وصفقات إنتاج، وربما عقود إعلانات، بينما قد لا يملك صاحبها أي رصيد فني فعلي.
تعمل الخوارزميات بوصفها عدسة تضخّم ما يحظى بتفاعل سريع
لا تهتم المنصة بالبنية الجمالية للعمل بقدر ما تهتم بقدرته على البقاء حياً في قوائم التشغيل، وتحقيق أكبر زمن استماع ممكن. وبالتالي، تنتج "محتوى" أكثر مما تنتج "فناً"، ويصبح الفنان مطالباً بأن يكون خفيف الظل، وسريع التفاعل، متواصلاً يومياً مع متابعيه، ومتقناً لعبةَ الترند، ليس فقط متقناً صنعةَ الغناء أو التأليف.
وتتعمق هذه الإشكالية أكثر عند النظر إلى غياب التنوع الموسيقي. فالمنصة، بفعل خوارزميتها القائمة على التشابه، تدفع المستخدم نحو النوع نفسه من الأغاني التي استمع إليها سابقاً. فإذا بدأ المستمع بأغان من نوع معين، سواء كانت من الراب العربي أو المهرجانات الشعبية، فإن المنصة تظل تقترح عليه المزيد من النوع نفسه، من دون أن تفتح له أبواباً جديدة لاختبار أنماط موسيقية أخرى.
بهذا، تتحول المنصة من وسيلة اكتشاف إلى وسيلة ترسيخ. وبدلاً من أن توسع أفق المستمع، فإنها تكرس ذوقه الأولي، وتبقيه محصوراً في فقاعة ذوقية ضيقة. هذا ينعكس على طبيعة الإنتاج نفسه: فالفنانون يسعون إلى إرضاء خوارزميات يعرفون أنها تفضل هذا النوع من الصوت أو الإيقاع أو الكلمات؛ فيتحول الفن إلى تكرار، ويقل التجريب، وتضمحل الجرأة.
من الصعب تجاهل تأثير التوزيع الجغرافي في رسم ملامح المشهد الموسيقي الرقمي، إذ تشير بيانات "سبوتيفاي" إلى أن دول الخليج تمثل نسبة كبيرة من الاستماعات للأغاني العربية، تليها مصر، ثم بلاد الشام.
لكن المفارقة أن الإنتاج الموسيقي الموجه إلى دول الخليج، من ناحية الكلمات واللهجة والموضوعات، غالباً ما يكون مختلفاً عن الذوق السائد في مصر أو بلاد الشام. ومع ذلك، فإن قوائم التشغيل العربية توضع غالباً من مقر مركزي (في دبي أو بيروت أو القاهرة)، ما ينتج أحياناً انطباعا زائفاً عما "يحبه العرب"، من دون التمييز الكافي بين الأسواق المحلية المتنوعة.
حديث المنصة يكشف عن الحاجة إلى إنشاء قوائم تشغيل تحريرية محلية، يديرها نقاد موسيقيون، أو باحثون في الأنثروبولوجيا الموسيقية، وليس موظفو تسويق رقمي فقط. لأن الذوق العام ليس معطى تقنياً، بل هو كائن ثقافي متغير، يحتاج إلى عين تفهم تاريخه وطبقاته، وإلا صارت النقرات حُكماً يفصل بين الأغاني.

أخبار ذات صلة.

