
يمن مونيتور/ من محمد عبدالقادر اليوسفي
في قلب المدن اليمنية التي تتصبب عرقًا تحت شمس تموز اللاهبة، تتكدّس عشرات الأرواح المنهكة في ممرات مراكز غسيل الكلى بين جدران لا تعرف الرحمة ولا برودة الهواء، هنا لا شيء سوى الانتظار الطويل، والآهات المكبوتة، والأمل الذي يتآكل كل يوم بفعل انقطاع الكهرباء ونقص الأدوية، المرضى ليسوا سوى أجساد تتحمّل ما لا يُحتمل، في معركة صامتة مع الفشل الكلوي والحر الخانق.
يتوافد المئات من المرضى أسبوعيًا إلى هذه المراكز، بحثًا عن جلسة غسيل قد تنقذ حياتهم، أو تؤجّل انهيار أجسادهم المتعبة ليوم آخر، لكن ما يلاقونه هناك هو عكس “الرعاية الصحية”: “قاعات مكتظة، مكيفات معطلة، أدوية غير متوفرة، وطواقم طبية تعمل بإمكانات شبه معدومة”. كل ذلك وسط صيف يصعب معه حتى التنفس.
هذا الواقع القاسي لا يظهر على شاشات التلفزة ولا يتصدر خطابات المسؤولين، لكنه حاضرٌ بوضوح في عيون المرضى وذويهم، وفي سجلات الوفيات التي ترتفع كل صيف بصمت، هذا التقرير يغوص في تفاصيل هذه المأساة الإنسانية التي تستمر تحت وطأة الإهمال، ويضعنا أمام أسئلة ملحّة عن مصير آلاف اليمنيين الذين يخوضون معركة البقاء بلا دواء ولا كهرباء.
كهرباء تغدر المرضى
في مركز الغسيل الكلوي بمستشفى الجمهورية التعليمي بعدن، لا يكاد يمر يوم دون أن تنقطع فيه الكهرباء أكثر من مرة وأحيانًا لساعات متواصلة، ورغم وجود مولدات احتياطية، إلا أن قدرتها لا تكفي لتشغيل أجهزة الغسيل بالكامل او لساعات كثيرة ومتواصلة، ما يؤدي إلى تأجيل الجلسات أو تقليص مدتها، مما يُعرض حياة المرضى لخطر شديد.
تقول “أم سامي”، وهي والدة شاب في العشرينات يعاني من فشل كلوي مزمن: “ابني يأتي ثلاث مرات في الأسبوع، وفي كل مرة نعيش كابوس انقطاع التيار الكهربائي، مرتان تم تأجيل الجلسة ومرة غُسل نصف الجلسة فقط، وكاد أن يدخل في غيبوبة”. تشير إلى ان جسده نحيل وتضيف: “الكهرباء عندنا مش رفاهية، هي حياة أو موت”.
يشرح فني الصيانة في أحد مراكز الغسيل الكلوي أن “الأجهزة الحديثة تحتاج إلى تبريد مستمر، وحرارة عدن المرتفعة تؤدي إلى تعطل متكرر للماكينات، وفي بعض الأحيان تلفها نهائيًا”، ومع ازدياد الضغط على المركز، تُصبح إعادة تشغيل الأجهزة المتعطلة أشبه بالمستحيل، نظرًا لشح التمويل والصيانة الدورية.
مسؤول إداري في المستشفى، (فضّل عدم ذكر اسمه)، كشف أن “المركز يضطر أحيانًا لتقليص عدد المرضى في اليوم، بسبب ضعف الكهرباء وعدم كفاية الديزل لتشغيل المولد”، مؤكدًا أن ما يحدث في الصيف تحديدًا يمثل حالة طوارئ حقيقية، لكن دون أي استجابة من الجهات الرسمية.
معاناة انقطاع الكهرباء لا تقتصر على تعطيل الأجهزة فقط، بل تمتد إلى خلق بيئة خانقة في قاعات الغسيل، حيث يجلس المرضى لساعات تحت سقفٍ لا يحرّك فيه الهواء ساكنًا، يقول أحد المرضى: “نجلس كأننا في فرن، وبعضنا يغمى عليه من الحرارة وليس من المرض”.
مشهد للمعاناة نفسها
ما تعانيه عدن، يتكرر بأشكال أكثر فظاعة في محافظة تعز، التي تواجه موجة حر مشابهة وظروف تشغيل أشد قسوة، حيث كشف الدكتور عصام الصبري، رئيس مركز الغسيل الكلوي في مستشفى الجمهوري بتعز، عن كارثة إنسانية وصحية متفاقمة يعيشها المرضى والعاملون في القسم، في ظل شح حاد في مادة الديزل وتوقف معظم أجهزة التكييف، ما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة بشكل مرهق ينعكس سلبًا على صحة المرضى وكفاءة أجهزة الغسيل.
وقال الصبري في تصريح خاص لـ “بمن مونيتور”: “وحدة الغسيل تعمل يوميًا من 18 إلى 20 ساعة متواصلة، تحت ضغط كبير بسبب زيادة عدد المرضى، إلا أن شح الوقود يضطرنا إلى تقليص جلسة الغسيل من أربع ساعات إلى ثلاث فقط، وهذا خطر حقيقي على المرضى”.
يضيف: “لا نستطيع تشغيل حتى مكيف واحد في القسم رغم شدة الحرارة، بسبب عدم توفر كمية كافية من الديزل، اضطررنا لفتح الإطارات الخارجية للأجهزة، ووضع مراوح يدوية لتبريدها بشكل بدائي”.
وأوضح الصبري أن فتح منفذ جولة القصر زاد من الضغط الهائل على المركز، حيث يتوافد المرضى من الراهدة، الدمنة، الحوبان، شرعب، وحتى القاعدة، ما ضاعف من معاناة الوحدة التي لا تملك أكثر من 22 سريرًا، رغم الحاجة إلى 70 على الأقل، مشيرًا إلى وجود مساحة قابلة للتوسعة تنتظر أي جهة ممولة.
وختم حديثه لـ “يمن مونيتور” بتحذير صادم: “الحرارة تخنق المرضى، والأجهزة تُبرد بمراوح يدوية، والمرضى يُختصر لهم وقت الغسيل لإنقاذ أكبر عدد ممكن، هذا واقعنا ونحتاج تدخلًا عاجلًا”.
جلسات تحت الجحيم
في العادة تستغرق جلسة الغسيل الكلوي الواحدة إلى أربع ساعات، لكن في عدن وتعز، حيث درجات الحرارة تقارب الاربعين، تصبح كل دقيقة داخل قاعة الغسيل تعذيبًا إضافيًا فوق الألم المزمن.
المرضى يستلقون على الأسرة بأجساد متعرقة وملامح شاحبة، بينما يتناوب الفنيون على تشغيل الأجهزة البديلة أو إصلاح الأعطال المفاجئة.
تروي “أروى حمود”، وهي مريضة منذ سبع سنوات، أن جلسات الغسيل في الصيف “تحولت إلى كابوس حقيقي”، وتقول: “كنت أتلقى الجلسة وأنا أتابع دراستي، الآن لا أستطيع حتى الحركة بعدها، الحرارة تسرق ما تبقى من قوتي وأخرج من المركز وكأنني كنت في معركة”.
وتؤكد بعض الممرضات أنهن يضطررن لرش الماء على وجوه المرضى الذين يوشكون على فقدان الوعي بسبب الحرارة المرتفعة: “نفتقر إلى مكيفات تعمل، وأحيانًا لا توجد حتى مراوح كافية”.
ويواجه الأطفال المصابون بالفشل الكلوي وضعًا أكثر هشاشة، إذ لا تتحمل أجسادهم الحرارة كالكبار، أحد الأطباء المتطوعين في احدى مراكز الغسيل بتعز قال: “الحرارة تُسرّع من هبوط الضغط لدى الأطفال وتزيد من معدل المضاعفات، حتى انها تنهكهم قبل أن ينهي المرض نفسه”.
في هذا السياق، يوضح الدكتور الصبري، ان ارتفاع درجة الحرارة اثناء جلسات الغسيل، تجبر المرضى على شرب كميات كبيرة من المياه، وهذا يعود سلبًا على صحتهم، حيث ان الغسيل يقوم بسحب السوئل من اجسادهم، الا انه يضاف سوائل اخرى في هذه الحالة، ما يراكم المرض ويصعب على الاجهزة سحب السوائل بالكامل في هذه الحالة، بحسب الصبري.
أدوية لا تصل
مع ارتفاع درجات الحرارة تتزايد الحاجة للأدوية المرافقة لجلسات الغسيل، مثل مضادات التجلط، والأدوية المنظمة لضغط الدم، والمحاليل الوريدية، لكن في معظم مراكز الكلى، هذه الأدوية أصبحت شبه نادرة، أو متوفرة بأسعار لا يقدر عليها المرضى.
يقول الدكتور عبدالرحمن عامر، وهو طبيب مختص في أمراض الكلى، إن كثيرًا من المرضى “يضطرون إلى شراء الأدوية من الصيدليات الخاصة بأسعار مضاعفة”، ويضيف لـ “يمن مونيتور”: “غياب الدواء يؤثر مباشرة على كفاءة جلسات الغسيل، وقد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة تصل للوفاة”.
تشير إحصائية حديثة حصلنا عليها من مصدر في وزارة الصحة (فضل عدم الكشف عن هويته) إلى أن نحو 60% من مراكز الغسيل تعتمد على دعم منظمات دولية، وأن أي تأخير في تمويل الشحنات الدوائية يؤدي إلى نقص مفاجئ في الأدوية.
أما المرضى الذين لا يملكون ثمن الأدوية فيلجؤون إلى تقليص عدد جلساتهم الأسبوعية، أو أخذ الجلسة دون بعض الأدوية، ما يؤدي إلى تراكم السموم في أجسامهم، هذا الخيار القسري يعجّل بتدهور حالتهم الصحية، بل يُعجّل الموت نفسه.
مطالب لا تُسمع
تتكرر مناشدات الطواقم الطبية والمرضى وذويهم كل عام، دون أن تجد من يستجيب، المنظمات الدولية تقوم بدور مؤقت ومحدود، بينما تقف السلطات المحلية والحكومة عاجزة عن توفير الحد الأدنى من مقومات الرعاية.
يطالب العاملون في مراكز الغسيل بتوفير مولدات كهرباء قوية، وضمان تغذية دائمة بالطاقة، إلى جانب نظام تهوية جيد، وتوفير أسِرة غسل اضافية، اضافة الى توفير الأدوية الأساسية بشكل منتظم، لكن هذه المطالب تُقابل بالصمت أو بالوعود المؤجلة.
المرضى أنفسهم لا يطلبون أكثر من حقهم في العلاج، لكنهم يشعرون أنهم يُعاملون كعبء ثقيل على نظام صحي منهك، يقول مريض اربعيني في عدن: “نحن لا نطلب إلا الحياة، مش مكيفات فخمة بس تبريد بسيط وأدوية”.
ومع استمرار هذا الإهمال، تتصاعد الأسئلة حول مسؤولية الحكومة، وموقف وزارة الصحة، وقدرة السلطات المحلية على الاستجابة، وحتى تُسمع هذه الأسئلة، يواصل آلاف اليمنيين في عدن وتعز خوض معركتهم اليومية مع الفشل الكلوي، في صيف لا يرحم، ونظام صحي يتنصل من مسؤولياته.
The post بلا تكييف ولا دواء…صيف عدن وتعز يحاصر مرضى الفشل الكلوي appeared first on يمن مونيتور.
أخبار ذات صلة.

