
بقلم / محمد عبدالله
لا تأتي الذكريات الكبرى لتملأ فراغ التقويم، ولا تمر كالعابر من المناسبات، بل تعود لتوقظ الذاكرة، وتفتح الأفق أمام المراجعة، وتوقظ في الوعي الجمعي أسئلته الأهم: من نحن؟ وأين نقف من وطنٍ يُنهكه الجرح، وتثقله الحرب، ويبحث ـ في متاهة الصراع ـ عن مخرجٍ لا يزال بعيد المنال؟
تمرّ ذكرى تأسيس حزب الرشاد اليمني، والوطن يعيش إحدى أسوأ فصوله التاريخية: حربٌ طاحنة تجاوزت المدى، وغيابٌ مريع لمؤسسات الدولة، وتمزّقٌ في الجغرافيا، واختلالٌ في البوصلة، فيما يدفع المواطن الثمن الأكبر، وحده، دون توقفٍ أو شفقة.
ومن زاوية التأمل في هذا المشهد المركب، لا يبدو الحديث عن تجربة حزب الرشاد حديثَ انتماءٍ عاطفي، بل محاولة لفهم مسيرةٍ اتسمت بوضوح الرؤية وصدق الموقف، ورغبة في تمثّل المعنى وسط الركام، والبحث عن جدوى السياسة وسط الضجيج.
لقد جاء حزب الرشاد في لحظةٍ فارقة من عمر البلاد، حين كانت الساحة السياسية تفتقر إلى التوازن، وتتعطش لصوت لا يخشى وضوح الرؤية، ولا يستحي من قول كلمة الحق. ومنذ نشأته، اصطفّت قيادته ـ وهم نخبة من علماء اليمن ـ خلف مشروع واضح، يستند إلى مرجعية شرعية أصيلة، ويستبطن في عمقه التوفيق بين فقه الدولة وفقه الدعوة، في رؤيةٍ لا تفصل بين الدين والوطن، ولا تُفاضل بين الحقوق والواجبات.
وهذا ما منح الحزب خصوصيته في المشهد اليمني؛ إذ ظل، رغم كثافة الضجيج وتغيّر التحالفات، ثابتًا على موقفه من الانقلاب الحوثي، واضحًا في رؤيته حول بناء الدولة، متّزنًا في علاقاته مع مختلف القوى السياسية، دون أن يذوب في أحد، أو يخاصم لأجل الاصطفاف.
وليس سرًّا أن حزب الرشاد، رغم حداثة تأسيسه، لم يتورط في الغموض السياسي، ولم يهرب إلى الشعارات، بل قدّم نفسه كما هو: مشروع وطني بروح دينية، يسعى إلى المشاركة لا المغالبة، وإلى الإصلاح لا التصادم. مواقفه على امتداد السنوات الماضية كانت دومًا شاهدة على صراحته وصدقه، سواء في الموقف المحلي أو في المحافل الإقليمية والدولية، حيث اختار أن يكون صوتًا للمظلومين، وحارسًا للهوية، لا تابعًا لأحد.
وفي هذه اللحظة الحرجة من تاريخ البلاد، تتأكد الحقيقة القائلة إن الانتماء السياسي، حين لا يكون بوابةً للنفوذ، ولا وسيلةً للاختباء، يتحول إلى عبءٍ أخلاقي، ومسؤوليةٍ لا تهرب من الأسئلة، بل تبحث عن الإجابات. ومن هذا المنطلق، فإن كل مواطنٍ يحمل في قلبه مشروعًا للإصلاح أو نهضةً للوطن، لا ينبغي له أن يتوارى خلف الحياد المريح، بل أن ينخرط في همّ البلاد، ويسهم ـ بما يستطيع ـ في إعادة الروح إلى الجسد المنهك.
وما أكثر من ينتقدون الأحزاب من خارجها، لكن ما أقلّ من يقترحون البدائل، أو يخوضون غمار المشاركة بأدوات نزيهة، وإرادة مخلصة. لقد أصبحت الأزمة شاملة، تتجاوز الجبهات والمناطق، ولم تعد مقتصرة على طرف أو جهة، ومن هنا، فإن الخروج من هذا النفق المظلم لا يكون إلا بتكافل كل الإرادات الوطنية الصادقة، لا بالركون إلى لوم الآخر وانتظار المعجزة.
إن ذكرى تأسيس حزب الرشاد ليست لحظةً للتفاخر، بل مناسبة للتوقف، لا عند التاريخ فقط، بل عند سؤال المصير: كيف نعيد بناء الدولة؟ كيف نسترد ما تبقى من أملٍ في نفوس اليمنيين؟ وكيف نحفظ هذا الوطن من أن يتحوّل إلى مساحات نفوذٍ تتقاسمها المشاريع الخارجية؟
والجواب ـ في تقديري ـ لا يأتي من الخارج، ولا يُصنع في دهاليز السياسة الدولية، بل يُولد من الداخل: من صدق النوايا، ومن شجاعة الموقف، ومن الإيمان العميق بأن السياسة ليست مكسبًا، بل أمانة.
أسأل الله أن يكتب لليمن الخلاص، وأن يحفظ له أهله، وأن يُلهم أبناءه الصادقين سُبل الحكمة، ويوفّقهم لما فيه رفعة هذا الوطن، وأمنه، ووحدته، واستقراره.
وكل عام واليمن أقرب إلى فجرٍ جديد، تشرق فيه رايات الحرية والعدل، وتنتصر فيه إرادة الحياة.