
لم تُخفِ إسرائيل رغبتها في مهاجمة المشروع النووي الإيراني منذ أكثر من عقدين، وقد كثّفت وتيرة تهديداتها لإيران بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، قبل الهجوم الإسرائيلي على إيران فجر يوم الجمعة الماضي. في الأيام الأولى التي أعقبت هجوم حركة حماس، تمثّلت الاستراتيجية الإسرائيلية في منع توسيع دائرة المواجهة مع "حماس" في غزة إلى جبهات أخرى، إذ لا تملك إسرائيل القدرة على القتال على جبهات عدة في آن واحد، خصوصاً في ظلّ وضعها العسكري الهشّ بعد الهجوم. ومع ذلك، لم تنفِ القيادة السياسية أو العسكرية الإسرائيلية رغبتها في التعامل لاحقاً مع جميع الجبهات.
تغيّرت العقيدة العسكرية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر 2023، وأصبحت تتجه نحو منع أي تهديد مستقبلي بشكل استباقي، وتُعلن ذلك صراحة. لم تعد إسرائيل تكتفي بالردع والحسم السريع أو بنقل المعركة إلى أرض العدو، ولم تعد تسعى إلى خوض حروب قصيرة المدى. كما شهد المجتمع الإسرائيلي تحولاً لافتاً، إذ بات أكثر استعداداً لتحمّل الكلفة البشرية والمادية في سبيل منع تكرار أحداث مشابهة لهجمات "حماس". لكن، على ما يبدو، فإن الأطراف العربية وإيران لم تستوعب هذا التحوّل بالشكل الكافي، واستمرّت في قراءة وفهم إسرائيل وفق المعايير والمصطلحات لما قبل السابع من أكتوبر.
توقيت الهجوم كان مفاجئاً قبل يومين من جلسة كانت مقرّرة للمفاوضات النووية
لم يكن الهجوم الإسرائيلي على إيران صباح الجمعة، 13 يونيو/حزيران الحالي، والذي استهدف منشآت المشروع النووي الإيراني والقواعد العسكرية الإيرانية الاستراتيجية، واغتيال قيادات عسكرية وعلماء في مجال الذرّة، مفاجئين بحد ذاتهما؛ لكن التوقيت كان كذلك بالفعل، إذ جاء قبل يومين فقط من جولة سادسة للمفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران، كانت مقرّرة يوم الأحد في 15 يونيو. كان الاعتقاد السائد أن إسرائيل لن تبدأ هجومها إلا بعد انتهاء جولة المفاوضات الأخيرة، خصوصاً في ظلّ توقّعات بفشل المفاوضات.
فعلى الرغم من تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأن إسرائيل تنوي مهاجمة إيران، والمؤشرات الواضحة التي كانت تدل على التحضير لهذا الهجوم، مثل إخلاء الولايات المتحدة عدداً من سفاراتها في المنطقة، والمناورات العسكرية الإسرائيلية التي يصعب إخفاؤها، لا سيّما الجوية منها، جاء الهجوم الإسرائيلي على إيران مفاجئاً.
لماذا الهجوم الإسرائيلي على إيران الآن؟
باتت إسرائيل، في الأشهر الأخيرة، على قناعة بأن إيران تمرّ في أسوأ أوضاعها الاستراتيجية، وأنه بات من الممكن تنفيذ هجوم عسكري إذا رفضت طهران اتفاقاً نووياً وفق النموذج الليبي، أي تفكيك البرنامج النووي بالكامل. في المقابل، كان يمكن أن ترضى إسرائيل في مراحل سابقة باتفاق بشروط أقل، خصوصاً في ما يتعلّق بمواضيع مثل تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية وزيادة الرقابة الدولية والأميركية على البرنامج النووي الإيراني، وذلك بسبب صعوبة توجيه ضربة عسكرية حينها، ومعارضة الإدارات الأميركية المتعاقبة مثل هذه الضربات.
تغيّرت شروط إسرائيل واستراتيجيتها بعد أن وجّهت ضربات قاسية لقدرات حزب الله اللبناني العسكرية، وضربات مدمّرة للبنية العسكرية لـ"حماس"، إلى جانب انهيار النظام السوري السابق. عسكرياً، ووفقاً للحسابات الإسرائيلية، بات الثمن المتوقع لأي هجوم عسكري على إيران مقبولاً ويمكن تحمّله، خصوصاً في ضوء سهولة تنفيذ الضربات التي وجّهتها إلى إيران في إبريل/نيسان وأكتوبر 2024، خصوصاً استهداف منظومات الدفاع الجوي الإيرانية، إلى جانب الرد الإيراني المتواضع، ونجاح تجربة الدفاعات الجوية الإسرائيلية في مواجهة الصواريخ والطائرات المسيّرة الإيرانية. كل هذه العوامل عزّزت قناعة إسرائيل بقدرتها على توجيه ضربة عسكرية لمنشآت إيران النووية بثمن مقبول.
المتغيّر الإضافي المهم الذي مكّن الهجوم الإسرائيلي على إيران في هذا التوقيت هو موقف ترامب وسياسته. فعلى عكس تصريحاته العلنية وتصرفاته منذ دخوله البيت الأبيض، التي ادّعى فيها أنه يسعى إلى وقف الحروب وليس إشعالها، فقد سهّل الرئيس الأميركي مهمة إسرائيل ومنحها الضوء الأخضر لتنفيذ الهجوم. فمنذ تولّيه الرئاسة، قام ترامب بتسريع تزويد إسرائيل بالقذائف والأسلحة التي كانت مجمّدة في عهد إدارة سلفه جو بايدن، كما بدأ مفاوضات مع إيران كشفت عن صعوبة التوصّل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني وفق الشروط الأميركية، ومهّد بذلك للهجوم الإسرائيلي. وما تسرّب حتى الآن من معلومات يُشير إلى أن الهجوم الإسرائيلي على إيران جرى بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية، بل إن الولايات المتحدة كانت شريكاً في عملية التضليل التي نفذتها إسرائيل تمهيداً للهجوم.
يمكن القول إن إسرائيل سعت إلى استغلال الظرف الناشئ بعد السابع من أكتوبر من خلال توجيه ضربات قوية لمحور إيران في المنطقة، مستفيدة من وجود رئيس أميركي يتبنّى شروطاً أقرب إلى الموقف الإسرائيلي بهدف فرض معادلة جديدة في الإقليم وخلق واقع استراتيجي مختلف عمّا كان قائماً بعد السابع من أكتوبر. تصرّفت إسرائيل انطلاقاً من غطرسة وفائض قوة وثقة بالنفس، وبفضل دعم أميركي غير مشروط، ونفّذت ما كانت تسعى إلى تحقيقه منذ عقود.
مصالح نتنياهو
من الواضح أنه لا يمكن فصل توقيت القرار العسكري لتنفيذ الهجوم الإسرائيلي على إيران عن البُعد السياسي ومصالح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الشخصية والسياسية. فنتنياهو يحتاج إلى استمرار حالة الحرب والطوارئ لضمان بقاء التحالف الحكومي، خصوصاً بعد أن هدّدت الأحزاب الحريدية بالانسحاب من الائتلاف والتصويت، الأسبوع الماضي، لصالح قانون حلّ الكنيست، وذلك بسبب عدم إقرار قانون إعفاء طلّاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية.
ولولا الاتفاق الذي تمّ في الدقيقة التسعين بين جزء من الأحزاب الحريدية ويولي إدلشتين، رئيس لجنة الخارجية والأمن، حول صيغة ضبابية وغير نهائية للقانون، لكانت الأحزاب الحريدية كافة قد صوّتت بالفعل لصالح حلّ الكنيست. ويبدو أن قرار توجيه ضربة لإيران بعد يوم فقط من التصويت في الكنيست لعب دوراً في إقناع إدلشتين وبعض الأحزاب الحريدية بتغيير موقفهم.
كما يسعى نتنياهو بكل قوة إلى طمس صورة الإخفاق الكبير في السابع من أكتوبر، ولا يريد أن يُذكر في كتب التاريخ باعتباره رئيس الوزراء المسؤول عن أكبر فشل أمني في تاريخ إسرائيل. بل يطمح لأن يذكر اسمه بوصفه القائد الذي قضى على المشروع النووي الإيراني، وحمى إسرائيل من أكبر تهديد وجودي لطالما حذّر منه منذ نحو عقدين.
عسكرياً، ترى إسرائيل اليوم أن الثمن المتوقع لأي هجوم عسكري على إيران سيكون مقبولاً ويمكن تحمّله
فضلاً عن ذلك، فإن فتح جبهة واسعة مع إيران يُسهم في تراجع الاهتمام الإعلامي بالحرب على غزة، ويُضعف التركيز على قضية الأسرى والمخطوفين، وعلى الضغوط الداخلية للتوصل إلى اتفاق مع حركة حماس. كما يُخفّف من الضغوط الخارجية المتزايدة والانتقادات الأوروبية المتصاعدة ضد إسرائيل. وقد تحوّلت الحرب على غزة إلى جبهة ثانوية مقارنة بالحرب على إيران، وكل هذه التطوّرات تصبّ في مصلحة نتنياهو السياسية والشخصية.
يبدو أن نتنياهو يدرك أن نهاية التحالف الحكومي الحالي باتت وشيكة نتيجة التناقضات الداخلية. في ظلّ هذه الظروف، يكون الهجوم على إيران مغامرة سياسية محسوبة. فنجاح الهجوم يمكن أن يُلغي عار السابع من أكتوبر، ويُعزّز مكانة نتنياهو السياسية، ويوفّر دفعة معنوية كبيرة لمعسكره وداعميه. حينها، قد يُبادر بنفسه إلى تقديم موعد انتخابات الكنيست، ليكون عنوانها القضاء على القدرات النووية والعسكرية الإيرانية.
هل تستطيع إسرائيل تحمل الأثمان؟
بطبيعة الحال، المغامرات العسكرية لا يمكن أن تكون مضمونة تماماً أو بنسب عالية من النجاح. صحيح أن إسرائيل تمتلك تفوقاً جوياً واستخبارياً واضحاً على قدرات إيران، وأنها نجحت في الساعات الأولى من الهجوم في توجيه ضربات قاسية لقدرات إيران العسكرية والمنشآت النووية، إلا أنها تدرك جيداً أنها لا تستطيع بمفردها تحقيق تدمير شامل للمشروع النووي الإيراني، وأنها ستحتاج في مرحلةٍ ما إلى دعم الولايات المتحدة ومساعدتها.
كما لا يمكن التكهّن بمدى قدرة إيران على الردّ على الهجوم، حتى وإن كانت الأثمان التي تكبّدتها إسرائيل حتى الآن غير مرتفعة. لكن إطالة أمد حرب إضافية مع إيران قد تؤدي إلى تصاعد الخسائر البشرية والمادية داخل العمق الإسرائيلي، الأمر الذي قد يُفضي إلى تراجع دعم المجتمع الإسرائيلي هذه الحرب. وإذا ما رُبطت الحرب بأهداف نتنياهو الشخصية والسياسية، فقد تتحوّل إلى موضوع خلاف وانقسام إضافي داخل المجتمع الإسرائيلي والمنظومة السياسية، ما يجعل منها عبئاً سياسياً إضافياً على الحكومة، وعلى نتنياهو نفسه.
كما أن الحرب على إيران ستُفاقم الأعباء الاقتصادية على الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعاني أساساً من ضغوط شديدة منذ السابع من أكتوبر 2023. فبحسب تقديرات أولية، قد تؤدي الحرب إلى إضافة نحو 40 مليار شيكل إلى ميزانية وزارة الأمن، وفقاً لصحيفة ذا ماركر (14 يونيو)، وزيادة العجز في موازنة الدولة بنسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وستُضاف إلى ذلك أيضاً تكاليف مدنية، تشمل تعويضات للأعمال التجارية ومدفوعات إجازات غير مدفوعة الأجر، وتراجع النشاط الاقتصادي العام. بل إن الميزانية الحكومية التي أُقرّت في مارس/آذار الماضي قد تصبح غير واقعية وغير قابلة للتطبيق في ظلّ المعطيات الجديدة التي فرضتها الحرب على إيران.
تؤدي الحروب وحالة الطوارئ عادةً إلى توحيد المجتمع الإسرائيلي، والتقليل من حدة الصراعات والمنافسات الحزبية والسياسية الداخلية، حيث يتجنّد الجميع خلف المجهود العسكري، لا سيّما إذا سُوّقت تهديداً وجودياً. لكن، ومع مرور الوقت، وفي حال عدم تحقيق جميع الأهداف وارتفاع التكاليف، تبدأ الانتقادات في الظهور وتتسع التصدعات الداخلية.
وفي ظلّ الوضع السياسي الراهن في إسرائيل، وحالة الإنهاك العام نتيجة الحرب الطويلة على غزة، وتراجع الثقة بالحكومة، وتدهور الوضع الاقتصادي، فإن نشوة الهجوم على المنشآت النووية والمعسكرات الإيرانية قد تتحوّل سريعاً إلى عبء سياسي، خصوصاً إذا تمكنت إيران من الصمود وبدأت بردّ جدي ومؤلم على الهجوم الإسرائيلي.

أخبار ذات صلة.
